إعادة ولادة للأزمة في مصر

القاهرة - بدت سنة 2024 سنة الخلاص للأزمة الاقتصادية في مصر، حيث رمى الحلفاء والمؤسسات المالية الدولية طوق النجاة بعد وقوع البلاد في أزمة ديون دراماتيكية. وجاء الخلاص في شكل تحويل نقدي ضخم وفوري من الإمارات العربية المتحدة، بلغت قيمته 35 مليار دولار لصفقة تطوير مدينة رأس الحكمة على الساحل الشمالي الغربي بمحافظة مطروح في مصر.
ووافق صندوق النقد الدولي على زيادة قرضه للبلاد من 3 مليارات دولار إلى 8 مليارات دولار بمجرد الإعلان عن الاتفاق. ثم وصلت حزمة تمويل أخرى من الاتحاد الأوروبي بقيمة 8.1 مليار دولار وشارك البنك الدولي في تمويل إضافي بقيمة 6 مليارات دولار على مدى السنوات الثلاث المقبلة.
ويرى الكاتب ماجد مندور في تقرير نشره موقع “عرب دايجست” أن كل هذا لا يبدو كافيا لإنهاء أزمة الديون التي لا تزال آثارها محسوسة ومن المرجح أن تمتد خلال المستقبل المنظور. ويضيف مندور أن المساعدة حققت عكس التأثير المقصود، حيث شجعت النظام على تجنب الإصلاح الحيوي وإسقاط نموذجه لرأسمالية الدولة العسكرية.
وشملت أبرز دلالات استمرار الأزمة تصاعد الضغط على العملة التي انحدرت قيمتها إلى مستوى قياسي تاريخي بلغ أكثر من 50 جنيها للدولار. ويرتبط هذا الضعف بعجز النظام عن توليد مصادر كافية للعملة الصعبة من أجل سد الفجوة التمويلية وتمويل مدفوعات ديونه الخارجية التي بلغت 23.8 مليار دولار خلال الأشهر التسعة الأولى من سنة 2024.
ودُفعت القاهرة بذلك إلى الاعتماد على “المال الساخن” لتلبية هذه المطالب. فبعد انخفاض قيمة الجنيه في مارس، من 31.5 إلى 49.5 جنيه للدولار، وبعد الإعلان عن حزمة الإنقاذ الإماراتية، تدفقت الأموال الساخنة إلى البلاد وسجّلت مستوى قياسيا بلغ 34 مليار دولار بحلول أبريل. لكن هذا السيف كان ذا حدين، حيث تجد الحكومة المصرية نفسها أسيرة للمستثمرين الذين يسعون لجني أرباح سريعة من القروض قصيرة الأجل ذات الفائدة العالية.
ولم يعد أمامها أي خيار سوى زيادة أسعار الفائدة لتجنب نبذ هؤلاء المستثمرين، وهو السيناريو الذي قد يتسبب في انهيار مالي. وقفزت الأموال الساخنة بالفائدة على الدين المصري إلى المعدل المرتفع الذي يتراوح بين 31 و35 في المئة. وزاد هذا من عبء الديون وترك مصر في وضع يتزايد هشاشة في ما يتعلق بمدينيها ودون خيار سوى الإبقاء على أسعار الفائدة مرتفعة. وتشكّلت حلقة من الاعتماد المتزايد على الديون يصعب الآن كسرها.
ويزيد غياب الاستقرار الإقليمي تأزم الوضع. وتفرض قلة الاستثمارات ضغوط العملة الصعبة الإضافية على إيرادات الحكومة. وانخفض الدخل من قناة السويس، التي شهدت تراجع إيراداتها بمقدار الربع تقريبا (من 9.4 مليار دولار إلى 7.2 مليار دولار في 2023 – 2024). كما شهدت صادرات الغاز انخفاضا كبيرا.
وتقهقر مستوى الإنتاج إلى أدنى مستوى له في ست سنوات، حيث تحولت مصر من دولة مصدرة للغاز (بإجمالي إيرادات بلغت 8.4 مليار دولار خلال 2022) إلى طلب ملياري دولار خلال أشهر الصيف لتلبية طلبها المحلي مع تواصل أزمة انقطاع التيار الكهربائي.
وتبدو أسباب انخفاض الإنتاج مدفوعة بنقص الاستثمارات الجديدة، والذي يرجع بدوره إلى نقص الأموال التي يجب أن تضخها الحكومة للوفاء بالتزاماتها وتطوير قطاع الطاقة، حيث وصلت مستحقات شركاء مصر في قطاع الطاقة إلى 5.9 مليار دولار بحلول نهاية أبريل.
ويبدو أن الوضع يزداد سوءا بسبب قرار النظام مواصلة اتباع سياسته الرأسمالية الحكومية العسكرية، إذ أنها السبب الرئيسي الذي خلق الأزمة الحالية. وتُبرز دلالات متعددة آثار هذا الاتجاه المدمر. فعلى سبيل المثال استقال رئيس صندوق مصر السيادي أيمن سليمان من منصبه في أغسطس، وكان قد شغله لمدة 5 سنوات. وكان سبب استقالته الواضح هو عجزه عن إحراز تقدم في طرح شركات يملكها الجيش في البورصة.
وكان الصندوق قد وقّع خلال فبراير 2020 اتفاقية تعاون مشترك مع جهاز مشروعات الخدمة الوطنية التابع للقوات المسلحة لتهيئة عشر شركات تجارية بهدف عرضها أمام مستثمرين من القطاع الخاص.
◙ الوضع في مصر يزداد سوءا بسبب قرار النظام مواصلة اتباع سياسته الرأسمالية الحكومية العسكرية إذ أنها السبب الرئيسي الذي خلق الأزمة الحالية
ويرجع هذا الفشل إلى عرقلة الجيش الذي منع بيع الشركات التي يملكها رغم وعود الحكومة، وحتى الدعوات التي وجهها السيسي نفسه. وتؤكد مؤشرات أخرى استحكام قبضة الجيش الخانقة على الاقتصاد والدولة. ويُبقي هذا احتمال الإصلاح بعيد المنال.
وتعدّ حالة جهاز مستقبل مصر للتنمية المستدامة (الناشط تحت إشراف القوات الجوية المصرية) أبرز مثال على ذلك. ويعوّض الآن وزارة التموين بصفته وكالة مسؤولة عن استيراد القمح بأمر مباشر.
وتبقى مصر أكبر مستورد للقمح في العالم، ما يعني أن هذه السياسة هي امتداد واضح لسيطرة الجيش على نشاط اقتصادي حيوي. كما يفتح هذا الطريق أمام الكسب غير المشروع الجماعي حيث أصبح الشراء بأمر مباشر يعوّض العطاءات التنافسية. وتُهدر سنوات الخبرة المتراكمة التي تمتعت بها وزارة التموين في التعامل ضمن الأسواق الدولية.
وتكمن استجابة الحكومة المصرية للأزمة المستمرة في إبقاء نفسها مقيدة بنموذجها لرأسمالية الدولة العسكرية ومرتبطة بأسسه الأيديولوجية القومية المتطرفة.
وواصلت الحكومة المصرية طوال السنة الحالية إلقاء عبء الأزمة على عاتق الفقراء وأفراد الطبقة الوسطى. وحققت ذلك عبر التقشف الذي شهد زيادة سعر الخبز المدعوم بنسبة 300 في المئة مقارنة بيونيو. كما ارتفع سعر الوقود بمقدار ثلاث مرات في نفس السنة. ويتزامن كل هذا مع استمرار التضخم عند 25.5 في المئة خلال نوفمبر، رغم أنه يشكّل انخفاضا طفيفا عما كان عليه خلال يناير (29.8 في المئة).
وتجنبت الحكومة المصرية الانهيار المالي والتخلف عن سداد الديون حتى الآن. لكن قتامة الصورة لم تخفَّف مع بقاء الاقتصاد المصري معرضا للتقلبات الجيوسياسية وتغييرات الأسواق المالية الدولية. وتُبرز الأحداث في سوريا قدرة التغييرات الجيوسياسية على التأثير على الأنظمة المعتمدة على الدعم الخارجي.