إعادة ضبط العلاقات مع السلطة الفلسطينية على هامش الأولويات الأميركية

بعد مقاطعة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في ولايته الأولى، تسعى رام الله الآن إلى تحسين العلاقة عبر جملة من "الإصلاحات". ورغم أن ذلك يمنح فرصةً لمعالجة أوجه القصور في السلطة الفلسطينية إلا أن خطوات مماثلة في أوقات سابقة كانت مخادعة.
رام الله - قبل فوز الرئيس الأميركي دونالد ترامب بولاية ثانية في نوفمبر الماضي، كان رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس يتخذ خطواتٍ لإصلاح الضرر الناجم عن قراره مقاطعة إدارة ترامب الأولى، بدءًا من إقرار إصلاحات جديدة وصولًا إلى تنفيذ عمليات أمنية غير مسبوقة في الضفة الغربية.
و بالنظر إلى سلوك عباس السابق، ينبغي النظر إلى هذه الخطوات بحذر؛ فالعقبات التي تعترض التقدم الثنائي كبيرة، سواء بسبب الديناميكيات الفلسطينية أو نتيجة السياسات الأميركية.
ويقول غيث العمري، وهو زميل أقدم في مؤسسة جيلبرت بمعهد واشنطن، في تقرير نشره المعهد إنه مع ذلك ينبغي لواشنطن التواصل مع السلطة الفلسطينية للتأكد من جدية التغييرات الأخيرة -لاسيما وأن رغبة السلطة الفلسطينية الواضحة في كسب رضا ترامب تتيح فرصة لمعالجة بعض أوجه القصور فيها دون إنفاق الكثير من الموارد السياسية أو المادية.
إصلاح الخلافات
بالنظر إلى سلوك عباس السابق، ينبغي النظر إلى هذه الخطوات بحذر؛ فالعقبات التي تعترض التقدم الثنائي كبيرة
كانت العلاقة بين ترامب وعباس دافئة خلال ولايته الأولى. والتقى الزعيمان في بيت لحم في مايو 2017، ثم في البيت الأبيض في سبتمبر. لكن هذا التقارب انتهى فجأةً في 6 ديسمبر 2017، عندما أعلن ترامب نقل السفارة الأميركية في إسرائيل إلى القدس، ما أثار رد فعل عنيفا من السلطة الفلسطينية.
وعلى مدار الأشهر التالية أدت سلسلة من التطورات إلى إغلاق القنوات الدبلوماسية وتعليق المساعدات الأميركية.
وإدراكًا منه للضرر الناجم عن انقطاع التواصل خلال ولاية ترامب الأولى، حاول عباس رأب الصدع في الحملة الانتخابية الأميركية العام الماضي.
وفي 14 يوليو، على سبيل المثال، أرسل إلى ترامب رسالةً تُدين محاولة اغتياله. ومنذ الانتخابات اتخذت السلطة الفلسطينية عددًا من الخطوات لإحياء العلاقة وتهيئة نفسها للعب دور قيادي في غزة ما بعد الحرب.
وفي أواخر العام الماضي نفذت عمليات أمنية نادرة في مدينتي طوباس وجنين شمال الضفة الغربية.
وفي 10 فبراير أصدر عباس مرسومًا يقضي بامتثال السلطة الفلسطينية لقانون تايلور فورس لعام 2017. وخلال قمة جامعة الدول العربية في 4 مارس أعلن عن سلسلة من الإصلاحات في كل من السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية.
وتأخرت هذه الإجراءات، التي طال انتظارها، بسبب العقبات الفلسطينية الداخلية، التي لا تزال قائمة وتتفاقم بسبب السياسات والمواقف الأميركية. ومع ذلك، فإن محاولات السلطة الفلسطينية لإجراء هذه التغييرات تشير إلى حرصها على إصلاح العلاقات.
وكان رد فعل السلطة الفلسطينية على خطة ترامب “ريفييرا غزة” هادئًا نسبيًا، إذ لجأت إلى الرفض العربي الجماعي، متجنبة بذلك المواجهة المباشرة مع واشنطن.
ومع ذلك، ما دامت هذه الفكرة مطروحة، فإن تواصل السلطة الفلسطينية مع الإدارة الأميركية سيُعرّضها لاتهامات بالتواطؤ. وإذا نُفّذت الخطة، فقد لا يكون أمام السلطة الفلسطينية خيار سوى قطع العلاقات مجددًا.
وتمثل المفاوضات المباشرة الأخيرة لإدارة ترامب مع حماس انتكاسة كبيرة للسلطة الفلسطينية.
ولطالما جادلت رام الله بأن عزلة حماس الدولية -بسبب تبنيها الإرهاب ورفضها الاعتراف بإسرائيل- جعلتها غير مؤهلة لقيادة الشعب الفلسطيني، لأنها لا تستطيع حشد العالم دبلوماسيًا أو تأمين مساعدات مالية دولية.
وعلى وجه الخصوص جادلت السلطة الفلسطينية بأنه لا يمكن السماح لحماس بالبقاء في السلطة في غزة، لأنه لن تستثمر أي دولة مانحة في إعادة الإعمار بعد الحرب طالما بقيت الحركة هناك. ومع ذلك، فإن المحادثات الأميركية المباشرة تُشير إلى وجود صدع في عزلة حماس.
ولعلّ أبرز خطوة اتخذتها السلطة الفلسطينية مؤخرًا هي إصلاح نظام دفع رواتب “الأسرى والشهداء”. ولم تمنع هذه المدفوعات السلطة الفلسطينية من تلقي المساعدات الأميركية بموجب قانون تايلور فورس فحسب، بل أحدثت أيضًا تأثيرًا سلبيًا على جوانب عديدة من العلاقات بين الولايات المتحدة والسلطة الفلسطينية.
وناقشت الحكومتان إلغاء هذه المدفوعات لسنوات عديدة، ومع نهاية إدارة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن تبلورت خطة للقيام بذلك: ستنهي السلطة الفلسطينية هذه الممارسة وتنقل مستفيديها السابقين إلى نظام الرعاية الاجتماعية الفلسطيني العام، الذي يعتمد فقط على الحاجة المالية. إلا أن رام الله ترددت في اعتماد هذه السياسة رسميًا خوفًا من رد فعل الجمهور.
وفي فبراير أضفى عباس طابعًا رسميًا على هذه التفاهمات بمرسوم من شأنه أن يُلزم السلطة الفلسطينية ظاهريًا بالامتثال للقانون الأميركي.
وفي إطار إصلاح نظام الرعاية الاجتماعية للسلطة الفلسطينية بأكمله، نُقل النظام القديم لمدفوعات الأسرى إلى منظمة جديدة إلى جانب مدفوعات الرعاية الاجتماعية الأخرى.
ومع ذلك ليس من الواضح مدى جدية هذا التغيير حيث صيغ المرسوم الجديد بشكل مبهم ولم يُطبّق بعد.
ويشترط قانون تايلور فورس آليات صارمة ومستمرة للتصديق والإبلاغ والإخطار لفحص تطبيق الترتيبات الجديدة وتحديد ما إذا كانت تفي بالمتطلبات القانونية الأميركية.
وإذا استوفت السلطة الفلسطينية هذه المتطلبات -التي تشمل أحكامًا إضافية مثل الإدانة العلنية للهجمات الإرهابية- فربما ترد واشنطن بالمثل وتستأنف التمويل الأميركي.
ورغم أن هذا سيشكل تحديًا نظرًا لنفور إدارة ترامب من المساعدات الخارجية، إلا أن أي دعم ولو كان ضئيلا سيُرسل إشارة سياسية مهمة، تُنعش العلاقات الثنائية، وتُعزز موقف واشنطن لحثّ الجهات المانحة الأخرى على دعم السلطة الفلسطينية.
الأمن
في تطور ملحوظ آخر بدأت قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية مؤخرًا عمليات مكثفة في شمال الضفة الغربية، وخاصة طوباس وجنين، اللتين لطالما كانتا بؤرتين لعدم الاستقرار، وتشهدان بوضوح على افتقار السلطة الفلسطينية للسيطرة على المناطق الخاضعة لسلطتها.
وساهم عدد من العوامل في توقيت هذه العمليات، بما في ذلك مخاوف السلطة الفلسطينية من تزايد الدعم المحلي لحماس. ومع ذلك، ليس هناك شك في أن المناقشات حول اليوم التالي للحرب في غزة كانت عاملاً مؤثرًا، حيث ترغب السلطة الفلسطينية في الإشارة إلى قدرتها على لعب دور أمني بعد انتهاء الحرب.
وكانت نتائج هذه العمليات متباينة. فمن ناحية تشير إلى استعداد السلطة الفلسطينية لاستخدام القوة ضد الإرهابيين، وكانت بعض الجوانب إيجابية، مثل التنسيق بين فروع قوات الأمن الفلسطينية وأداء وحدات معينة. ومن ناحية أخرى أبرزت العمليات أوجه القصور في الاستخبارات والقدرات لدى قوات الأمن الفلسطينية، ولم تحقق عملية جنين أهدافها.
وتتيح هذه الديناميكية الجديدة فرصة لتنشيط العلاقات الأمنية بين الولايات المتحدة والسلطة الفلسطينية.
وطالما أبدت السلطة الفلسطينية عزمها على العمل، فإن الولايات المتحدة تمتلك الأدوات اللازمة لدعم جهودها.
ومنذ إنشاء مكتب منسق الأمن الأميركي عام 2005، ساهم المكتب بفاعلية في إصلاح قوات الأمن الفلسطينية وتأهيلها، وقدّم المشورة للقادة الفلسطينيين خلال العمليات الأخيرة. كما ساهم مكتب التنسيق الأمني الأميركي في الحفاظ على التعاون الأمني الإسرائيلي – الفلسطيني، حتى في ظلّ التوترات التي تُسببها عمليات إسرائيل في الضفة الغربية.
وسيساعد تعزيز مكتب التنسيق الأمني الأميركي في الحفاظ على قنوات التواصل مع السلطة الفلسطينية بشأن القضايا الأمنية، ويُحسّن قدرتها على الحفاظ على استقرار نسبي في الضفة الغربية، دون تكبّد واشنطن تكاليف إضافية.
إصلاح السلطة الفلسطينية
يبدو أن السلطة الفلسطينية تُدرك الآن ضرورة إصلاح نفسها لتلعب دورًا ليس فقط في غزة، بل أيضًا في الدبلوماسية الإقليمية والدولية الأوسع.
وقد دقت دعوة إدارة بايدن إلى “سلطة فلسطينية مُجدَّدة” ناقوس الخطر في رام الله، التي حاولت أن تبدو مُستجيبة بتعيين رئيس وزراء جديد، لكنها لم تتخذ أي خطوات لنقل السلطة من عباس.
وفي حين لم تتولّ إدارة ترامب إصلاح السلطة الفلسطينية بشكل مباشر، إلا أن تصريحات ترامب حول “ريفييرا غزة” ولّدت شعورًا بالإلحاح في العواصم العربية لتقديم خطة بديلة، ما زاد بدوره الضغط على عباس لإجراء إصلاح حقيقي وجعل السلطة الفلسطينية بديلًا موثوقًا به لحماس.
وفي محادثات خاصة مع عباس ضغط عليه بعض القادة الإقليميين بشأن الإصلاح. ولتأكيد هذه النقطة لم يُدعَ عباس إلى الاجتماع الذي نظمته المملكة العربية السعودية لمناقشة الرد العربي على اقتراح ترامب.
ولذلك لم يكن مفاجئًا أن يختار عباس القمة العربية الطارئة التي تلت ذلك ليُعلن أنه سيُعيّن نائبًا له، وسيُصدر عفوًا عن المُطرودين من حركة فتح -وهما خطوتان سياسيتان بالغتا الأهمية.
وسيخدم إصلاح السلطة الفلسطينية في نهاية المطاف المصالح الأميركية، إذ يوفر بديلاً فلسطينيا عن حماس، ويحافظ على استقرار الضفة الغربية.
وفي الوقت نفسه يُعد هذا الإصلاح عملية شاقة ومعقدة. ومن غير المرجح أن تنخرط إدارة ترامب بشكل مباشر في تفاصيل إصلاح حقيقي للسلطة الفلسطينية، لكن رغبة الدول العربية الجديدة في رؤية هذا الإصلاح تُتيح لواشنطن فرصة لتحقيق هذا الهدف من خلال شركائها.
وتسعى الدول العربية إلى تغيير جوانب معينة من السياسة الأميركية تجاه القضية الفلسطينية. ومن خلال ربط هذه التغييرات بالترويج العربي لإصلاح السلطة الفلسطينية، يمكن للإدارة الأميركية المضي قدماً في هذه الأجندة دون إنفاق مبالغ طائلة من رأس المال السياسي والدبلوماسي.
ونظرًا لحجم وتعقيد القضايا التي تواجه إدارة ترامب في الشرق الأوسط من غير المرجح أن تُعطي بناء العلاقات مع رام الله الأولوية. ومع ذلك تُشير الإجراءات والإعلانات الأخيرة للسلطة الفلسطينية إلى وجود رغبة في التواصل مع واشنطن. ويمكن للولايات المتحدة أن تجني فوائد كبيرة من هذه المبادرات دون صرف الانتباه والموارد عن أولويات إقليمية أخرى.