إعادة ضبط العلاقات بين العراق وتركيا: تحديات وفوائد

من حقوق المياه إلى حزب العمال الكردستاني، بدا أن القمة الأخيرة قد أزالت العديد من الأشواك التي طال أمدها من العلاقة الثنائية بين تركيا والعراق، مما خلق تحديات وفوائد محتملة.
بغداد - في 22 أبريل، سافر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى بغداد للقاء رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، في أول زيارة له إلى هناك منذ ثلاثة عشر عامًا. وتمخضت الرحلة عن العديد من الاتفاقيات الثنائية المهمة بشأن الطاقة والمياه والأمن والتجارة والنقل، مما يشير إلى الرغبة المتبادلة في تحسين العلاقات.
وجاء في تقرير نشره معهد واشنطن ساهم فيه سونر كاغابتاي، وهو مدير برنامج الأبحاث التركية، وسيلين أويسال، وهي مقيمة لدى الوزارة الفرنسية لأوروبا والشؤون الخارجية، إضافة إلى بلال وهاب، وهو زميل أقدم في معهد فاغنر، أنه نظراً للطبيعة المضطربة للعلاقات العراقية – التركية منذ الخمسينات، فإن هذا التطور يمكن أن يمثل نقطة تحول تاريخية. ويتساءل الباحثون: لماذا تعمل أنقرة وبغداد على إصلاح علاقاتهما الآن، وما هي الآثار المترتبة على إعادة ضبط العلاقات هذه على الشرق الأوسط الأوسع؟
تدهورت العلاقات بين البلدين بعد انقلاب عام 1958 ضد ملك العراق فيصل الثاني. وأدى الانقلاب وما تلاه من صعود نظام البعث الاشتراكي في بغداد إلى وضع العراق وتركيا العضو في حلف شمال الأطلسي في مواجهة بعضهما البعض خلال الحرب الباردة. كما ظهرت خلافات ثنائية مختلفة، بما في ذلك حول حقوق المياه في نهري دجلة والفرات، حيث تسيطر تركيا على المنبع.
واستمرت العلاقات في التدهور بعد الحرب الباردة في التسعينات، عندما أصبح شمال العراق الجبلي ملاذاً لحزب العمال الكردستاني، وهو منظمة تصنفها الولايات المتحدة إرهابية والتي كانت تشن حربًا ضد الحكومة التركية منذ الثمانينات. ولم تؤد نهاية حكم صدام حسين عام 2003 إلى إصلاح العلاقة. ومنع رفض تركيا المشاركة في التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة والنفوذ الإيراني المتزايد بعد الحرب أنقرة من تأسيس أيّ نفوذ في بغداد.
وظل النفوذ التركي مقتصرا على الطائفة التركمانية الصغيرة في العراق، ومعقل العرب السنة في محافظة الموصل، وإقليم كردستان في الشمال. من جانبها، كانت بغداد منشغلة بالصراع الداخلي والتحدي المتمثل في موازنة العلاقات مع إيران والولايات المتحدة، مما لم يترك لها سوى القليل من النطاق الترددي لتطوير سياسة متماسكة تجاه تركيا. ومن خلال المعالجة المباشرة للعديد من القضايا الدائمة بين البلدين، تَعِد قمة أردوغان – السوداني بتحسين العلاقة بشكل كبير مع تعزيز النفوذ التركي في بغداد.
علاقة في السقوط الحر لعقود
ومنذ أن بدأت تركيا في بناء سدود كبيرة لتوليد الطاقة الكهرومائية على نهري دجلة والفرات في السبعينات، أعرب العراق وسوريا عن مخاوف عميقة بشأن احتمال قيام أنقرة باستخدام المياه كسلاح ضدهما (يقع العراق عند مجرى النهرين، وسوريا عند نهر الفرات).
وفي عام 1983، شكلت الدول الثلاث لجنة فنية مشتركة لمناقشة إدارة الأنهار، لكنها لم تتوصل إلى تسوية ثلاثية على الرغم من توقيع الترتيبات الثنائية. ففي عام 1987، على سبيل المثال، وقّعت أنقرة معاهدة مع دمشق لإطلاق 500 متر مكعب من المياه في الثانية من نهر الفرات؛ وبعد ثلاث سنوات، وقّعت دمشق اتفاقية مع بغداد وعدت بتقديم 58 في المئة من تلك المياه للعراق، لكن الاتفاق العراقي – التركي يظل الحلقة المفقودة.
وعلاوة على ذلك، قامت أنقرة في بعض الأحيان بتخفيض أو قطع تدفق كلا النهرين عند جمع المياه لسدودها الكبيرة، مثل كيبان وكاراكايا وأتاتورك على نهر الفرات وإليسو على نهر دجلة. وقد فعلت ذلك أيضاً لأسباب جيوسياسية، كما حدث عندما أغلقت نهر الفرات في عام 1990 بعد غزو العراق للكويت (في ذلك الوقت، لم يكن لدى تركيا سدود كبرى من شأنها أن تسمح لها بإغلاق نهر دجلة).
وقد جعلت مثل هذه التحركات بغداد ودمشق تشعران بالضعف بشأن أمنهما المائي، مما دفعهما إلى التصدي لتركيا بطرق أخرى، من تعزيز العلاقات مع الاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة إلى إيواء حزب العمال الكردستاني. وخلال قمة الشهر الماضي، وقّعت تركيا والعراق على اتفاقية إطارية للتعاون والعديد من مذكرات التفاهم التي تهدف إلى “تخصيص المياه العابرة للحدود بشكل عادل ومنصف وتحديد هدف للاستخدام الفعال والمعقول للمياه”. كما التزمت أنقرة بتقديم المساعدة الفنية في مجال إدارة المياه، بما في ذلك أنظمة وتقنيات الري الحديثة.
◙ باحثون يتساءلون لماذا تعمل أنقرة وبغداد على إصلاح علاقاتهما الآن، وما هي الآثار المترتبة على إعادة ضبط العلاقات هذه على الشرق الأوسط الأوسع
ويكمن الاختبار الحقيقي في ما إذا كانت الشركات التركية قادرة على تنفيذ مشاريع الأعمال الزراعية على الأراضي العراقية وسط عجز مزمن في الحكم المحلي والتهديدات المحتملة بالعنف من حزب العمال الكردستاني والميليشيات المدعومة من إيران. وفي التسعينات، بنى حزب العمال الكردستاني العديد من المعسكرات على طول المناطق الحدودية الجبلية في العراق مع إيران وتركيا، مستفيدًا من فراغ السلطة ومنطقة حظر الطيران التي فرضتها الولايات المتحدة في الشمال.
وقبل الإطاحة بصدام وبعدها، أمرت أنقرة بشكل متكرر بشن غارات عسكرية لاستهداف هذه المعسكرات، مما أثار انتقادات شديدة من بغداد لانتهاك سيادتها. واليوم، تحتفظ تركيا بما يقرب من أربعين موقعًا عسكريًا داخل العراق، كما كثفت الضغط على حزب العمال الكردستاني باستخدام الطائرات دون طيار والحملات العسكرية الموسمية. كما تشعر أنقرة بالقلق من أن وحدات مقاومة سنجار التابعة لحزب العمال الكردستاني تتلقى أموالاً من الحكومة العراقية كجزء من قوات الحشد الشعبي.
وقد شهدت هذه القضية تغيراً جذرياً قبل وقت قصير من زيارة أردوغان، حيث صنف العراق رسمياً حزب العمال الكردستاني باعتباره “منظمة محظورة”. ومن ثم فإن التوغل العسكري التركي المقبل، والذي يجري بمباركة بغداد، قد يؤدي إلى فرض طوق أمني تركي دائم داخل الأراضي العراقية.
وتعهد أردوغان بإنشاء مثل هذه المنطقة للدفاع عن الحدود ضد تسلل حزب العمال الكردستاني. وفي المقابل، تحصل بغداد على صفقة مياه وحصة في ما يسمى “طريق التنمية”. وشهدت القمة تخطيطاً ملموساً للطريق التجاري المقترح الذي يربط المحيط الهندي بأوروبا. وسيمتد جزء من الطريق من ميناء الفاو المزمع في العراق براً إلى موانئ تركيا على البحر الأبيض المتوسط.
كان الدافع وراء التخطيط المتسارع هو الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا (IMEC) الذي تم الإعلان عنه مؤخرًا بدعم من الولايات المتحدة، وهو المسار الذي تم الإعلان عنه رسميًا في سبتمبر الماضي، والذي سيتجاوز تركيا والعراق إذا تم تنفيذه.
وأصبح اقتراح طريق التنمية أكثر قابلية للتطبيق منذ ذلك الحين بسبب اندلاع الحرب بين حماس وإسرائيل، والتي صاحبتها هجمات على الشحن في البحر الأحمر وتحديات أخرى للممر الذي اقترحته الولايات المتحدة. وخلال القمة، وعد أردوغان السوداني بأن أنقرة ستستثمر في طريق التنمية، الذي حصل أيضًا على دعم مالي من قطر والإمارات العربية المتحدة. وفي حالة تنفيذ المشروع، فإنه سيخلق المزيد من الترابط الاقتصادي بين تركيا والعراق، مما يجبرهما على مناقشة خلافاتهما بدلاً من تصعيد التوترات بشكل متكرر.
ممر التنمية
ومن المرجح أن تقوم شركات قطاع البناء القوي في تركيا ببناء جزء كبير من البنية التحتية للطرق السريعة والسكك الحديد في جميع أنحاء العراق. ويبدو أن الميليشيات أكثر ميلاً إلى أخذ شريحة من الإيرادات الناتجة بدلاً من تخريب المشروع. ولا يزال دور إقليم كردستان في هذه المبادرة غير واضح. ويشعر الكثيرون في الحزب الديمقراطي الكردستاني المهيمن على السلطة في أربيل بالقلق من أن يتجاوز طريق التنمية أراضيهم ويضعف احتكارهم للتجارة عبر الحدود مع تركيا.
وفي هذه الأثناء، تحركت أنقرة ضد منافس الحزب الديمقراطي الكردستاني، الاتحاد الوطني الكردستاني، متهمة إياه بإيواء حزب العمال الكردستاني. وعلى سبيل المثال، أوقفت الخطوط الجوية التركية رحلاتها من أنقرة إلى معقل الاتحاد الوطني الكردستاني في السليمانية، مما زاد من عزلة الجماعة.
وتريد أنقرة تعزيز ديناميكيات إعادة المركزية التي وجهت العديد من تصرفات بغداد في السنوات الأخيرة. وفي عام 2017، عملت أنقرة مع بغداد وطهران لوقف محاولة استقلال إقليم كردستان. وفي الآونة الأخيرة، تم إغلاق خط الأنابيب بين العراق وتركيا منذ أوائل عام 2023. وعلى الرغم من أن الوضع نشأ عن شكوى عراقية ضد تركيا في غرفة التجارة الدولية، إلا أن النتيجة خدمت هدفهما المشترك المتمثل في إعادة المركزية، أي أن الأكراد لم يعد بإمكانهم تصدير النفط بشكل مستقل ويجب أن يعودوا إلى بغداد من أجل التوصل إلى حل قابل للتطبيق.
◙ أنقرة تريد دعم السوداني على إعادة تأكيد سلطته المركزية دون التضحية بالنفوذ التركي على إقليم كردستان المنقسم بشكل متزايد
ويشير التجميد المستمر لخط الأنابيب إلى أن أنقرة ستدعم السوداني بينما يعيد تأكيد سلطته المركزية، دون التضحية بالنفوذ التركي على إقليم كردستان المنقسم بشكل متزايد. وفي ما يتعلق بالمسألة الأخيرة، التقى أردوغان بزعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني خلال زيارته في أبريل للمرة الأولى منذ عام 2017، مما يشير إلى أنه سيواصل تنمية علاقات جيدة مع الجماعة، وتحسين العلاقات مع بغداد، وعدم إظهار أيّ تساهل تجاه الاتحاد الوطني الكردستاني.
ويمثل تركيز تركيا المتجدد على العراق تحديات وفرصًا للولايات المتحدة، خاصة في ضوء علاقة واشنطن المتوترة بشكل متكرر مع أنقرة. والدافع وراء هذا التحول في المقام الأول هو توقع تركيا لانسحاب الولايات المتحدة في نهاية المطاف من العراق. علاوة على ذلك، نظرًا إلى أن الشرق الأوسط أصبح ساحة للمنافسة الاقتصادية الأميركية المتنامية مع الصين، وتهدف تركيا إلى لعب دور في إعادة تشكيل طرق التجارة العالمية، جزئيًا من خلال التعاون مع العراق.
وقد يؤدي الفراغ الذي خلفه الانسحاب الأميركي أيضًا إلى تعزيز الوفاق الودي بين تركيا وإيران. ورغم أن موقف طهران من هذا الاحتمال لا يزال غير واضح، إلا أنها تبدو متسامحة بحذر مع مبادرات أنقرة الاقتصادية والعسكرية في العراق.