إعادة تشكيل الخطاب العام أمر أساسي لاستعادة الدعم للسلام الإسرائيلي – الفلسطيني

إضعاف وجهات النظر المعتدلة من الجانبين يكرس نهج إدارة الصراع بدل حله.
الخميس 2024/11/21
الرأي العام صناعة ذات حدين

يشكل الخطاب العام أحد المحركات الأساسية لأي صراع، فتغييب أو استبعاد الأصوات المعتدلة من الجانبين يكرسان نهج إدارة الصراع بدل سبل حله. ولتشكيل رأي عام مؤثر تلعب وسائل الإعلام والمؤثرون والسياسيون دورا محوريا.

القدس - يرى محللون أن رغم الحرب الإسرائيلية على غزة وما تبعها من تصعيد مروع لا تزال هناك فرصة لتغيير مسار الأحداث ووضع المنطقة على مسار السلام.

ويقول الدكتور عوديد أدومي ليشيم، وهو عالم نفس سياسي، في تقرير نشره معهد الشرق الأوسط إن لتحقيق هذه الفرصة، يتعين على دعاة السلام الفلسطيني – الإسرائيلي أن يستثمروا بشكل إستراتيجي في التعامل مع وسائل الإعلام الجماهيرية في المنطقة.

ويضيف أدومي ليشيم أنه يتعين كذلك على أنصار السلام، سواء من الجهات الفاعلة في المجتمع المدني المحلي أو الشركاء الدوليين، أن يبذلوا جهودا مستدامة لتعزيز حل الصراع من خلال تحويل الخطاب العام للمنافذ الإعلامية التقليدية والجديدة، وخاصة في إسرائيل.

ويعتقد أن هذا الأمر لن يكون سهلا، لكن الجهود المركزة للتأثير على الخطاب العام قد تسفر عن نتائج تساهم بشكل كبير في احتمالات السلام.

ساحة الخطاب العام

من أجل خلق فرصة حقيقية لحل الصراع في المنطقة، لا بد من وجود استثمار إستراتيجي في التأثير على الخطاب العام

عندما يتحدث الناس عن صنع السلام وبناء السلام في سياق الصراع المستعصي بين إسرائيل وفلسطين، فإنهم يشيرون عادة إلى ساحتين. الأولى هي الساحة “من أعلى إلى أسفل” التي تنطوي على حشد زعماء العالم والجهات الفاعلة الإقليمية وأصحاب المصلحة العالميين والشخصيات البارزة لدفع حل الصراع. إن المحترفين في هذا المجال هم الساسة والدبلوماسيون وخبراء مراكز الأبحاث والأكاديميون المرموقون وغيرهم من ذوي النفوذ الدولي والإقليمي الذين يحاولون إيجاد السبل لتغيير الوضع من الأعلى إلى الأسفل. وتندرج محاولات التفاوض الرسمية وغير الرسمية ضمن هذه الفئة، وكذلك جهود صنع السياسات التي تسعى إلى إغراء أو إرغام الأطراف على الانخراط في عملية السلام.

والمجال الثاني هو مجال المجتمع المدني، الذي يسعى إلى تغيير السياسات وقلوب وعقول الأفراد من “الأسفل إلى الأعلى”. والمتخصصون في هذا المجال هم قادة القاعدة الشعبية والناشطون ومنظمو المجتمع وميسرو المجموعات والمعلمون والمنظمات غير الحكومية العاملة على الأرض. وهم يعملون على إنشاء مجموعات الحوار وتنسيق اللقاءات بين الناس وتطوير وتنفيذ البرامج التعليمية وتقديم توصيات سياسية لوضع الأساس للسلام والمصالحة.

ورغم أن برامج المجتمع المدني جديرة بالاهتمام في حد ذاتها، فإن تأثيرها على تعزيز السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين كان هامشيا حتى الآن. وإذا نظرنا إلى مسار الصراع على مدى الأعوام الثلاثين الماضية، يبدو أن النهج الذي يعتمد على التنازل من الأعلى كان غير فعال بنفس القدر.

الجهود التي تبذل من أعلى إلى أسفل ومن أسفل إلى أعلى تشكل أهمية بالغة لتعزيز السلام الإسرائيلي – الفلسطيني

وتشكل الجهود التي تبذل من أعلى إلى أسفل ومن أسفل إلى أعلى أهمية بالغة لتعزيز السلام الإسرائيلي – الفلسطيني. ولكن أنصار السلام غالبا ما يتجاهلون ما أتصور أنه الساحة الأكثر أهمية للتأثير، على الأقل في عصرنا الذي يتميز باستهلاك مفرط لوسائل الإعلام.

وهذه الساحة هي ساحة وسائل الإعلام الجماهيرية والثقافة الشعبية، حيث يتم تشكيل الخطاب العام، وبالتالي الرأي العام، في كل لحظة، حيث تعمل وسائل الإعلام التقليدية (التلفزيون والإذاعة والصحافة) ووسائل الإعلام الجديدة (وسائل التواصل الاجتماعي) على توليد الخطاب الذي يشكل كيف يفكر الناس ويشعرون. والمهنيون في هذا المجال هم صناع المحتوى، والمسوقون، والمعلنون، ومتخصصو الاتصالات، والناشطون، والصحافيون، ومقدمو البرامج الصوتية، والمؤثرون، وغيرهم من المشاهير الذين غالبا ما يشكلون بشكل غير مباشر المنظور الذي يفسر الناس من خلاله الواقع.

ولم تتخل مجالات بناء السلام عن هذه الساحة، فهي لم تنخرط فيها بجدية قط، وبالتالي تركتها لتتشكل من قبل الأصوليين على الجانبين. وفي الوقت الحالي، يهيمن معارضو السلام والمصالحة على الخطاب العام الإسرائيلي. وعلى هذا فإن المصطلحات والإطارات والتعليقات والتأويلات والخطابات التي يتم نشرها في قنوات الاتصال التقليدية والجديدة مشبعة بنظريات عالمية تروج للكراهية وانعدام الثقة. ويوفر هذا الخطاب السام الدعم الشعبي واسع النطاق اللازم لتكثيف العنف والعدوان تجاه الجانب الآخر.

وصحيح أن الخطاب العام يتأثر أيضا بالواقع وأن الفظائع الدموية التي ارتكبها الجانبان في العام الماضي خلقت بطبيعة الحال عداءً وانعدام ثقة كبيرين ينعكسان بعد ذلك في وسائل الإعلام. ولكن الأمر يعمل أيضا في الاتجاه المعاكس. فالنشر الصريح والضمني للرؤى العالمية القومية المتطرفة والعِرقية، عندما يتكرر مرارا وتكرارا، يصبح راسخا في قلوب وعقول الناس. وعندما تصبح هذه النظرات العالمية هي المشاعر المشتركة، تحظى الحكومات بدعم كامل من ناخبيهم لرفع المخاطر ومستويات العداء.

الخطاب العام في إسرائيل

المتشددون الإسرائيليون بذلوا جهودا متعمدة لإزالة السلام والمصالحة من الخطاب

كان السلام ذات يوم مثالا عزيزا بين معظم الإسرائيليين، وهدفا يستحق الكفاح من أجله على الرغم من العقبات. ومع ذلك، في العقدين الماضيين، تضاءلت القيمة المتصورة لـ”السلام” بشكل كبير بين الإسرائيليين.

وأحد الأسباب هو أنه حتى السابع من أكتوبر 2023، كان الإسرائيليون يعيشون في أمان نسبي. والثمن الفوري المنخفض الذي كان عليهم أن يدفعوه لاستمرار الصراع جعل السلام مع الفلسطينيين ببساطة قضية غير ذات أهمية.

والسبب الآخر هو أن المتشددين الإسرائيليين بذلوا جهودا متعمدة لإزالة السلام والمصالحة من الخطاب الوطني. والواقع أن وسائل الإعلام والثقافة الشعبية الإسرائيلية غابتا بشكل ملحوظ عن أي تصوير إيجابي للسلام الإسرائيلي – الفلسطيني على مدى ما يقرب من عقدين من الزمان.

وتظل مسؤولية ضمان السلام موضوعا يستحق المناقشة في أيدي أنصاره. ولكن يبدو أن حتى دعاة السلام لا يتحدثون عنه بطرق مقنعة وملهمة.

وعلى سبيل المثال، عادة ما يتم التعبير عن نماذج السلام المختلفة (على سبيل المثال، حل الدولتين) بعبارات سياسية جافة أو مصطلحات تقنية، وبالتالي لا تحظى باهتمام كبير من قِبَل الجمهور. وهذه النبرة الجافة تجعل وسائل الإعلام غير مبالية والناس غير ملهمين، مما يجعل الدعوة إلى السلام أكثر صعوبة. وفي أعقاب السابع من أكتوبر، لابد من معالجة الشكوك الطبيعية، وتحديث النماذج القائمة.

ولكن من أجل تحقيق أي تقدم نحو حل الصراع، من الأهمية بمكان رسم صورة ملهمة لما قد يبدو عليه السلام. وينبغي لهذا الوصف أن يتجاوز السياسات أو التكوينات المحددة ويتجاوز المواضيع التقنية مثل الحدود، أو التدابير الأمنية، أو الضمانات الدولية. فالسلام ليس مجرد عملية سياسية، بل ينبغي أن يركز على ثمار السلام والفوائد التي سيعود بها على شعوب المنطقة عندما يتحقق في النهاية.

وعلاوة على ذلك، إذا سعت القيادات الدولية والشعبية (أو أصحاب المصلحة الآخرين) إلى الدعوة إلى السلام بفعالية، فيتعين عليها استخدام لغة بسيطة ومقنعة، وتأطير، وصور لتصوير نتائجه الإيجابية. وهذه ليست مهمة سهلة، ولكن إحدى الخطوات الأولى التي يمكن أن يتخذها دعاة السلام الفلسطيني – الإسرائيلي للتفاعل مع الخطاب العام هي تعلم كيفية وصف ثمار السلام بطرق بسيطة وملهمة.

فرصة للتغيير

Thumbnail

من غزة إلى لبنان تعيش المنطقة حاليا حالة حرب. والفظائع المروعة التي ارتكبتها حماس في السابع من أكتوبر والانتقام الإسرائيلي المروع الذي أعقب ذلك يهيمنان على الخطاب العام. والعداء بين الجماعات في تصاعد، وخطاب الكراهية منتشر في كل مكان ما يطرح تساؤلات: متى يكون الوقت المناسب لأنصار السلام للبدء في التواصل مع الجمهور من خلال وسائل الإعلام الجماهيرية بطريقة منسقة؟

وبسبب طابعها ونطاقها ودمويتها، فإن هذه الحرب لا تشبه أي حرب أخرى في تاريخ الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. وعلى هذا النحو، فإنها قادرة على تغيير النماذج القائمة، بما في ذلك نموذج إدارة الصراع الذي يقره الجمهور الإسرائيلي.

وكان النهج السائد الذي تنتهجه إسرائيل في التعامل مع علاقاتها بالفلسطينيين على مدى أكثر من عقد من الزمان يتلخص في إدارة الصراع، استنادا إلى فرضية أساسية مفادها أن الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني غير قابل للحل ومن المرجح أن يستمر إلى الأبد. ومن هنا فمن الأفضل أن تعمل إسرائيل على تقليص تكاليف الصراع إلى أدنى حد ممكن، بدلا من السعي إلى حله بالوسائل السلمية. ويبدو أن هذا النهج نجح مع إسرائيل، التي حافظت على قوتها، ودفعت ثمنا مقبولا للصراع، وبدأت في تطبيع علاقاتها مع العالم العربي.

وبالإضافة إلى ذلك، بذلت الحكومات اليمينية على مدى العقد الماضي كل ما في وسعها لضمان عدم التوصل إلى حل مقبول للصراع (ومعه تسوية إقليمية). وكانت إحدى الطرق للحد من فرص السلام إضعاف وجهات النظر الفلسطينية المعتدلة مع الحفاظ على لعبة القط والفأر الثابتة مع الفصائل الفلسطينية المسلحة مثل حماس.

وكانت حماس (ولا تزال) بمثابة أصل للقيادة الإسرائيلية المتشددة، التي تستطيع أن تستخدمها لتأجيج الصراع، وحصد الدعم المحلي، وتقديم الدليل على أن فكرة الحل المتفق عليه للصراع مستحيلة.

وتم الكشف عن عيوب وتناقضات هذا النهج في السابع من أكتوبر. فبدلا من إدارة الصراع، أصبحت إسرائيل الآن تحت إدارة الصراع. ولا يزال من الصعب تقييم تأثير التصعيد الحالي على نهج إدارة الصراع. ولكن حتى لو تراجعت شعبية نموذج إدارة الصراع، فإن السؤال حول ما الذي سيحل محله يظل قائما.

والخيار الأول هو أن تتولى النهج القومية المتطرفة. بعبارة أخرى، إذا لم يكن من الممكن إدارة الصراع، فلابد من حله من خلال القضاء على الطرف المنافس. وقد يتضمن هذا طرد الفلسطينيين، أو تقليص انتشارهم الجغرافي، أو الحد من مواردهم الاقتصادية بشكل أكبر. وقد روجت العديد من الشخصيات اليمينية في إسرائيل لأفكار مماثلة قبل السابع من أكتوبر. وربما تبدو هذه الأفكار الآن أكثر جاذبية لشريحة أكبر من السكان الإسرائيليين.

وأما الخيار الثاني فهو أن يستعيد نهج حل الصراع زخمه. فبعد نحو عقدين من عدم الشعبية، قد يتبنى الإسرائيليون المنطق القائل بأنه بما أن الصراع لا يمكن إدارته، فلابد من حله سلميا. ولكن هذا التغيير لن يحدث من تلقاء نفسه. ولضمان استعادة نموذج حل النزاعات لشعبيته، يتعين على أنصار السلام أن يبدأوا في حقن هذه الأفكار في الخطاب العام من خلال وسائل الإعلام الآن.

6