إشكالية إعادة إنتاج الأساطير في المسرح العربي

انبثق المسرح من الطقوس والاحتفالات والشعائر الدينية التي مارستها شعوب الحضارات القديمة، نظرا لالتقاء جوهر الدراما مع هذه المجالات، واستحالة نشوء أي فن من دون مؤثرات وبوادر سابقة تمهّد له.
هذا ما يعتقده أغلب مؤرخي المسرح ودارسيه، فتراجيديات الكتّاب اليونانيين، أسخيلوس وخلفائه، انبثقت من طقوس واحتفالات الديثرامبوس (التي تمجد الإله ديونيسيوس)، لكنهم انتزعوها من غلافها المقدس ووضعوها في أرض دنيوية.
واستمر الاهتمام بالأساطير في مسرح عصر النهضة، ثم في مسرح العصور اللاحقة، فنهل منها الكتّاب، أو أخذوا ملامحها، أو كيّفوها بأساليب مختلفة، ما أسهم في إغناء الماضي، وأضاء قضايا معاصرة، ترميزا وإيحاء.
وفي المسرح العربي وظّف أو كيّف عدد من الكتّاب، منذ النصف الأول من القرن العشرين، أساطير مصرية وسومرية وبابلية وعربية وغربية في نصوص مسرحية بصيغ امتثالية وإبداعية وافتراضية، مثل علي أحمد باكثير، توفيق الحكيم، بكر الشرقاوي، محمود تيمور، علي سالم، ولد عبدالرحمن كاكي، محمد الكغاط، معين بسيسو، لطفية الدليمي، معد الجبوري، خزعل الماجدي ورشا فاضل.
ويُعدّ توفيق الحكيم أبرز كاتب مصري وظف الأساطير في نصوصه المسرحية “أهل الكهف” و“بجماليون” و“أوديب الملك” و“إيزيس” و“سليمان الحكيم”، مستخدما مداخل اجتماعية ونفسية وميثولوجية ذات طابع ذهني في كتابتها، وعالج فيها قضايا شائكة كالصراع مع الزمن، ومشكلة الفن والواقع، ومعنى الحياة، والمعرفة، والحب، والتجزئة ليسهم في تقديم رؤية نقدية للحياة والمجتمع.
وفي العراق يمكن القول إن الشاعر خزعل الماجدي من أبرز الكتّاب العرب الذين أنتجوا نصوصا مسرحية مكيّفة عن التراث الأسطوري الرافديني، في سياق اشتغاله البحثي والإبداعي على الميثولوجيا والأديان والسحر.
وقد ذاعت شهرة نصوصه، ومنها “موزائيك”، “ليليث”، “سيدرا”، “بيرام وتسيبا”، “تموز في الأعالي” و”نزول عشتار إلى ملجأ العامرية”، التي صدرت مع نصوص أخرى له في مجلدين كبيرين ضمن أعماله الكاملة، في أرجاء الوطن العربي، وحظيت باهتمام وحضور واسعين في العديد من المهرجانات المسرحية العربية والدولية، وكُتبت عنها دراسات ومقالات ورسائل وأطروحات جامعية كثيرة، أجمع أغلبها على أنها “نصوص مفتوحة” اتخذت من الأساطير والينابيع والمصادر الدينية ونصوص التصوف والإشـراق والغنوصية رافدا جرى امتصاصه لإظهار رموز لها وظائف جديدة من خلال حذف وحدات نصية أو إعادة تركيبها وتسليط الضوء على وحدات أخرى لم تكن مقروءة سابقا، وإضافة “موتيفات” أو ثيمات جديدة إليها لإثرائها دراميا ودلاليا.
وقد اعتمد الماجدي صيغتين في كتابة نصوصه، إحداهما صيغة إبداعية تتمثّل بإعادة إنتاج الأساطير، أو تأويلها دراميا وفق رؤية معاصرة أحدثت تغييرا في أحداثها، أو شخصياتها، أو نواتها الأساسية، أو منظوراتها، لتتناغم ومشاغل عصرنا الحالي، وقضاياه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، انطلاقا من منظومة الأفكار والتصوّرات التي يحملها.
والثانية صيغة افتراضية انتزع فيها الشخصيات الأسطورية من محاضنها وزرعها في الحاضر، وافترض لها وجودا ومواقف وأفكارا متخيّلة، ووضعها في فضاءات معاصرة، وزجّها في صراعات مع شخصيات معاصرة.
وفي كلا الصيغتين نسف الماجدي البنية النصية للأساطير، بعد امتصاصها، ليؤسّس نصوصه الدرامية، وإظهار رموز لها وظائف جديدة تنسجم مع أفكاره ورؤاه.
ومثل الماجدي اشتغلت لطفية الدليمي في نصها المسرحي “الليالي السومرية”، الذي تابعت فيه الحضور النمطي والمحدد للشخصيات النسوية في ملحمة جلجامش، فعملت على ابتداع شخصيات ثانوية لتثري الصراع التراجيدي، من منظور نسوي، وركزت على موضوعتيْ الاستبداد والشراكة بين الرجال والنساء في صيرورة العالم القديم، ففي الملحمة الأصلية شخصيتان نسويتان تحرّكان الأحداث وتؤثران فيها هما شخصية الغانية شمخت، وشخصية سيدوري -ساقية حانة- اللتين تمثلان الموقف الأبيقوري من اللذة، وتبشران بالمتع وإشباع الرغبات، مع إغفال دور المعرفة.
لكن لطفية الدليمي توصلت إلى أن ثمة إغفالا كبيرا لأدوار النساء الأخريات في حياة جلجامش، فأوجدت شخصية نيسابا سيدة المعرفة، وشخصية المرأة العرّافة، التي تظهر كصوت خفي لامرأة رائية تُنذر، وتوجه الأحداث، وشخصية أورورا الخالقة، التي تتبادل أدوارها مع عشتار وشمخت.
وهكذا قدّمت رؤية مغايرة لأوضاع النساء المنمطة في الملحمة، بحيث ينتهي الأمر بجلجامش إلى التراجع عن فكرة الرحلة المزمعة إلى مياه بحر الموت للحصول على نبتة الخلود، والعودة إلى مدينة أوروك صحبة امرأة ليعيد النظر في موقفه من الموت والحب والحياة، ويعمّر المدينة ومعابدها كي تحقّق له شهوة الخلود كاسم تاريخي بدلا من الخلود الجسدي الذي تراجع عنه.
وبصيغة افتراضية وضعت رشا فاضل، في نصها المسرحي “هبوط عشتار إلى بغداد”، شخصيتيْ عشتار وتموز في قلب بغداد المحتلة عام 2003، وقبل هبوطهما إلى بغداد تتطلع عشتار من شرفتها السماوية إلى الأرض، فيصدمها اتساع بحيرة الدماء على أديمها، وتحاور تموز حول الأمر، وقد انتابها القلق لأن ثمة أناسا يهدمون صرحها المدرج، الجسر الممتد بين الأرض والسماء، وتتساءل عمّن يكون هؤلاء الغرباء المدجّجون بكتل الحديد، فألوانهم لا تشبه ألوان سلالتها، ولغتهم لا تنتمي إلى قاموس شعبها، فيجيبها تموز بأنهم الذين أراقوا الخضرة، وحوّلوا شعبها إلى شقائق نعمان تتناثر فوق الشعاب.
عندئذ تصيح إلهة الخصب والحب بغضب وحزن، وتقرّر أن تنزل هي وتموز إلى الأرض لتبارك شعبها من جديد، وترقيه ضد الموت، وتمنحه عشبة الحياة. لكنهما ما إن ينزلا إلى بغداد، ويتجوّلان في أحد شوارعها حتى يحدث انفجار قريب يطوح بهما على الأرض، وتفقد عشتار أثر تموز، وتفتّش عنه بين الوجوه الباكية التي لا تشعر بوجودها، فيخبرها أحد الجرحى بأن القوات الأميركية اعتقلته. ومن هنا تبدأ المأساة، حيث يتعرّض تموز إلى التعذيب والاستجواب داخل المعتقل بتهمة الإرهاب، أسوة بمئات العراقيين الذين يقاومون الاحتلال.
وفي الأخير تُعتقل عشتار، أيضا، وهي بثياب ممزقة، ووجهها ينزف دما، وتُرمى في نفس الزنزانة التي يقبع فيها تموز عاريا، مغطى الرأس بكيس، ما يُذكّر بالمعتقلين العراقيين في سجن “أبوغريب”، وتنتهي المسرحية بفكرة التضحية، التي يشكّل تموز واحدا من أكبر رموزها في الميثولوجيا، مع نبرة سخرية مبطنة من تجاهل أحفاده له، وتفريطهم في بلاد سومر.
بهذه الصيغة المبتكرة انتزعت رشا فاضل الشخصيات الأسطورية من محاضنها وزرعتها في الحاضر، مفترضة وجودها في فضاءات معاصرة، وراسمة لها صراعات مع شخصيات من زماننا.