إسرائيل والأردن: تنسيق أمني بعيدا عن الأنظار يحفظ مصالح إستراتيجية

تشير ديناميكيات العلاقة بين الأردن وإسرائيل منذ اندلاع حرب غزة في أكتوبر 2023 إلى مفارقة إستراتيجية لافتة: ففي حين تتصاعد حدة الخطاب من جانب عمّان ضد تل أبيب استجابة للضغط الشعبي الداخلي، تستمر قنوات التعاون الأمني والاستخباراتي بين البلدين بوتيرة متقدمة، مدفوعة بمخاوف مشتركة من التهديدات الإقليمية.
عمان - رغم التصعيد السياسي العلني بين الأردن وإسرائيل منذ اندلاع حرب غزة في أكتوبر 2023، فإن ما يجري في الخفاء بين البلدين يعكس واقعا مختلفا تدفع إليه اعتبارات أمنية وإستراتيجية ملحّة.
وعلى مدى العامين الماضيين، اتخذت عمّان سلسلة خطوات دبلوماسية توحي بقطيعة متنامية مع تل أبيب، بدءا من الانسحاب من مشاريع إقليمية مثل “المياه مقابل الطاقة”، مرورا بسحب السفراء، وانتهاءً بالمواقف الحادة التي عبّر عنها المسؤولون الأردنيون في المحافل الدولية.
وترى الباحثة إميلي ميليكين في تقرير نشره المجلس الأطلسي أن هذه المواقف، وإن عبّرت عن نبض الشارع، لا تختزل مجمل العلاقة المعقدة التي تربط الطرفين.
وعلى أرض الواقع، لا يزال التعاون الأمني والاستخباراتي قائما بل ومزدهرا، وهو تعاون فرضته تحديات إقليمية متفاقمة، في مقدمتها التهديد الإيراني واختلال توازنات ما بعد حرب غزة.
وهذا التعاون ليس وليد اللحظة، بل يستند إلى إرث طويل من التنسيق الأمني يعود إلى ما قبل توقيع معاهدة السلام عام 1994، حين بدأت قنوات الاتصال السرية بين الجانبين لضبط الجبهة الشرقية لإسرائيل.
رغم الخلافات السياسية الظاهرة، تدرك عمّان أن فك الارتباط الأمني مع تل أبيب قد يجعلها مكشوفة في مواجهة أخطار متعددة
ومنذ ذلك الحين، تطورت العلاقة لتشمل تبادلا منتظما للمعلومات الأمنية، وعمليات مكافحة تهريب، وحتى صفقات تسليح محدودة، كمنح إسرائيل للأردن طائرات هليكوبتر هجومية في 2015 لتعزيز قدراته ضد تنظيم داعش والجماعات المسلحة في العراق وسوريا.
واليوم، ورغم الخلافات السياسية الظاهرة، تدرك عمّان أن فك الارتباط الأمني مع تل أبيب في هذا التوقيت قد يجعلها مكشوفة في مواجهة أخطار متعددة، خصوصا مع توسع نشاط الميليشيات المدعومة من إيران في محيطها الجغرافي.
وفي أبريل 2024، عكست مشاركة الأردن في إحباط هجوم جوي إيراني واسع استهدف إسرائيل – بالتنسيق مع الولايات المتحدة وفرنسا – إدراكا متناميا لدى القيادة الأردنية بأن الأمن الإقليمي مترابط، وأن تجاهل الانفلات في الجبهة الغربية قد ينعكس على الداخل الأردني.
وعلى الجبهة الأخرى، تتعامل الأجهزة الأمنية الأردنية مع واقع متزايد الخطورة يتمثل في محاولات متكررة لتهريب أسلحة ومخدرات عبر الحدود، بعضها موجّه إلى الضفة الغربية، وبعضها يُشتبه بأنه مخصص لجهات داخلية على صلة بجماعات متشددة.
ووفق تقارير أردنية وغربية، فقد أحبطت عمان محاولات لتسليح جماعات إسلامية متطرفة، بعضها ذو صلات بجناح من جماعة الإخوان المسلمين، في سياق محاولات إيرانية لاستخدام الساحة الأردنية كمنصة ضغط أو فوضى بديلة بعد تراجع أدواتها التقليدية في غزة ولبنان وسوريا.
وفي مواجهة هذه التهديدات، تعتمد عمان سياسة “فصل الملفات”، إذ تُبقي على خطاب سياسي منتقد لإسرائيل يُرضي الغضب الشعبي، خصوصا في ظل التركيبة الديموغرافية التي يغلب فيها أبناء أصول فلسطينية على المجتمع الأردني، لكنها تواصل من خلف الكواليس تعزيز شراكتها الأمنية مع إسرائيل والولايات المتحدة.
وتسهم هذه الشراكة، التي تشمل تدريبات، وتبادل معلومات استخباراتية، ومناقشات إقليمية في غرف مغلقة، في احتواء التهديدات الآنية، سواء تلك التي تمس الحدود أو تلك التي تهدد التماسك الداخلي.
وفي هذا السياق، تتجنب عمان التموضع العلني في أي محور أمني مع إسرائيل، لكنها تقبل ترتيبات دفاع غير مباشرة، مثل إقامة منظومات رادار واعتراض جوي إسرائيلية قريبة من الحدود، توفر مظلة حماية مشتركة دون استفزاز الداخل الأردني.
وإلى جانب البعد الأمني، تُدرك القيادة الأردنية أهمية شبكة المصالح الاقتصادية مع إسرائيل، من المياه والغاز إلى موقع الأردن كممر بري أساسي في مشاريع الربط بين الخليج والبحر المتوسط. لكن هذه المشاريع، بما تحمله من رمزية تطبيعية، تفرض على الأردن اعتماد غلاف سياسي مخفف، غالبا عبر إدماجها في مبادرات متعددة الأطراف كالممر الاقتصادي الهندي – الشرق أوسطي – الأوروبي.
ويُعد هذا النهج جزءًا من سياسة أوسع لتقليل الكلفة السياسية الداخلية دون التفريط بالعوائد الاقتصادية الضرورية، في وقت يعاني فيه الاقتصاد الأردني من ضغوط كبيرة، وتواجه الحكومة تحديات اجتماعية متراكمة.
وفي موازاة ذلك، لا تُخفي عمّان قلقها من محاولة إيران استثمار التضييق على جماعة الإخوان المسلمين محليا، وملء الفراغ من خلال تجنيد عناصر شبابية في أنشطة تخريبية.
وقد برز هذا الخطر بوضوح في مايو 2024 عندما أعلنت السلطات عن إحباط مخطط لتهريب أسلحة من سوريا إلى الداخل الأردني، موجهة إلى شبكات مرتبطة بجماعات إسلامية، في تطور يُظهر سعي طهران لبناء أوراق نفوذ داخل الأردن ذاته.
ويضاف هذا التحدي الداخلي إلى أزمة الشرعية السياسية المتفاقمة، والتي تزداد هشاشة في ظل الذاكرة القريبة لمحاولة زعزعة الحكم عام 2021، ووجود شخصيات نافذة قادرة على تأجيج الشارع في حال اهتز التوازن بين الأمن والتمثيل الشعبي.
وفي ظل هذه التعقيدات، يبدو أن الخيار الواقعي الوحيد أمام الأردن هو مواصلة العمل على مسارين متوازيين: تصعيد سياسي منضبط تجاه إسرائيل لتهدئة الداخل، ومواصلة تنسيق أمني واستخباراتي وثيق لحماية الاستقرار الوطني. غير أن هذا الخيار محفوف بالمخاطر، خاصة إذا طال أمد الحرب في غزة أو امتد إلى جبهات أخرى، ما قد يضع الحكومة أمام اختبار أكثر حدة: الحفاظ على تحالفات الأمن، أو مواجهة عاصفة الشارع الغاضب.
وفي كلتا الحالتين، تظل علاقة الأردن بإسرائيل، وإن توارت خلف التصريحات النارية، ركيزة ضمن معادلة أمن إقليمي أكثر هشاشة وتعقيدا من أي وقت مضى.