إسرائيل تعمل على تغيير الجغرافيا السياسية في القطاع

غزة / تل أبيب - اتضحت الكثير من الأهداف التي تنطوي عليها تحركات الجيش الإسرائيلي في مدينة رفح بجنوب قطاع غزة، ومنها أن إسرائيل تريد تغيير الجغرافيا السياسية لتتحكم بمفردها فيه، وسد الرئة الرئيسية التي تتنفس منها حركة حماس وشريحة كبيرة من سكان القطاع ممثلة في معبر رفح المصري، مع توفير بديل بحري يخفف وطأة الاتهامات بارتكاب مجازر جماعية إذا تم التوسع عسكريا في رفح.
وقالت القيادة المركزية الأميركية (سنتكوم)، الجمعة، إن الحمولة الأولى من المساعدات الإنسانية المخصصة لغزة عبر الميناء العائم الذي أقامته واشنطن تمّ تفريغها وبدأت الشاحنات بنقلها نحو القطاع الفلسطيني المحاصر.
ويخفف عمل الرصيف معنويا من الضغوط الإنسانية الواقعة على إسرائيل، حيث قيل في مارس الماضي إن اللسان البحري الذي شيدته الولايات المتحدة سوف يتكفل بإدخال مليوني وجبة غذائية يوميا لنفي المجاعة المحتملة، وبالتالي تقليل الحاجة إلى المعابر البرية، وفي مقدمتها معبر رفح.
ويقول مراقبون إن الأمر ليس صادما أن يتزامن الانتهاء من المنصة البحرية في توقيت دخول قوات إسرائيلية مدينة رفح والسيطرة على معبرها من الجانب الفلسطيني، ما يدل على تنسيق مع الإدارة الأميركية، ورغبة في إحراج القيادة المصرية لإدخال المساعدات بالتعاون أمنيا مع إسرائيل، وإذا رفضت القاهرة يتم تحميلها مسؤولية الممانعة، وهو السيناريو الذي وصلت إليه إسرائيل حاليا.
وذكر موقع "واللا" العبري التابع للجيش الإسرائيلي أن تل أبيب قدمت إلى القاهرة خطة لإعادة تفعيل معبر رفح تتضمن استخدامه لحركة الأشخاص ونقل الوقود من مصر إلى غزة فقط “تحت إشراف أمني إسرائيلي”، وإعادة انتشار قوات الجيش خارج المعبر، بحجة حمايته من هجمات حماس.
وقالت هيئة البث الإسرائيلية الرسمية إن وفدا أمنيا إسرائيليا زار مصر، لبحث الأزمة العميقة بين الجانبين على خلفية اجتياح مدينة رفح.
ويضيف المراقبون أن الغرض الرئيسي هو إنهاء مركزية الدور المصري في القضية الفلسطينية، فمعبر رفح هو البوابة التي تجذب قطاعا كبيرا من سكان غزة نحو مصر باعتباره الممر الوحيد إلى العالم، والسيطرة عليه من قبل إسرائيل يمكّنها من خنقه أمنيا وسياسيا وإنسانيا بعد افتتاح الممر البحري.
وأكدت نتائج العمليات العسكرية الكبيرة في شمال غزة ووسطها وجنوبها أن قوات الاحتلال تعمدت هدم البنى التحتية وتغيير معالم القطاع كي يتسنى لها هندسته جغرافيا بالشكل الذي يسمح لها بالتحكم في مفاصله الرئيسية، إذا اضطرت إلى الانسحاب منه في اليوم التالي لانتهاء الحرب، والبدء في عملية إعادة الإعمار تحت إشرافها وليس بمعرفة الإدارة المصرية أو بمساعدتها كما حدث في مرات سابقة.
ويدل هذا التوجه على أن إسرائيل تريد تقويض دور مصر في غزة، وفصل العلاقة التاريخية بين الجانبين، وهو ما تزداد ملامحه مع تغيير الدور الذي تلعبه عوامل الجغرافيا السياسية بحكم الجوار والتلاقي المجتمعي بين جنوب غزة وشمال سيناء.
وقال أستاذ العلوم السياسية بجامعة القدس أيمن الرقب لـ”العرب” إن افتتاح المنصة البحرية بعد نحو شهرين من الإعلان عنها يثير الشكوك في الإدارة الأميركية ويجعلها شريكة للحكومة التي يقودها بنيامين نتنياهو في مخطط إعادة ترتيب الأوضاع في غزة بعد الحرب، بما يقلص دور مصر إلى الحد الأدنى، وتصبح مثل أيّ دولة عربية بعيدة ولا حدود مباشرة لها مع إسرائيل والأراضي الفلسطينية.
وأوضح أن تعاظم دور مصر في القضية الفلسطينية على مدار عقود كان بحكم الدفاع عن أمنها القومي الذي فرضته عوامل الجغرافيا بصورة رئيسية، ومحاولة تهميشها تأتي بقصد قطع أواصر الجغرافيا عمليا، ممثلة في معبر رفح، كمتنفس وحيد لغزة، عقب غلق إسرائيل ستة معابر لا يتحدث عنها أحد.
وأكد أيمن الرقب لـ”العرب” أن مصر لن تستسلم لمخططات إسرائيل الجهنمية، والتي تعاونها فيها الولايات المتحدة سرا، لأن الجغرافيا ليست هي الرابطة الوحيدة بينها والشعب الفلسطيني وأهالي غزة تحديدا، فهناك التاريخ والدم والمصاهرات والعلاقات الاجتماعية الوطيدة، وكلها مقومات متينة.
وأكدت منظمات دولية أن إيصال المساعدات عن طريق البحر أو إلقاءها من الجو “لا يعوّض فتح المعابر البرية والسماح بدخول المزيد من شاحنات المساعدات إلى غزة”. وكان معبر رفح الحدودي مع مصر، وهو نقطة العبور الأساسية للمساعدات الإنسانية عن طريق البر الفترة الماضية حتى إغلاقه بعد سيطرة إسرائيل عليه مؤخرا.
◙ معبر رفح هو البوابة التي تجذب قطاعا كبيرا من سكان غزة نحو مصر باعتباره الممر الوحيد إلى العالم والسيطرة عليه يمكّن إسرائيل من خنقه أمنيا وسياسيا وإنسانيا
وحذّرت مصادر عربية من أن العزف على وتر الجغرافيا السياسية أو تحييد مصر وثبوت أن الممر البحري يحمل مؤامرة لتضييق الخناق على غزة أمور يمكن أن تجرّ إسرائيل إلى أزمات أكبر، حيث تمنح القاهرة فرصة للتحلل من بعض الالتزامات الأمنية الضمنية ردا على الإخلال بها من قبل القوات الإسرائيلية مؤخرا.
وأشارت المصادر ذاتها لـ”العرب” أن ظاهرة الأنفاق التي أغلقتها مصر خلال السنوات الماضية يمكن أن تعود مرة أخرى، فعامل الجغرافيا السياسية من المكونات الثابتة، والتي يصعب قطعها بإجراءات أمنية معينة، خاصة إذا كان يمكن تجاوزها بأساليب مختلفة، لأن فلسطين تاريخيا أكبر من رفح، وخنق غزة المقصود منه أيضا خنق مصر والتلاعب بأمنها القومي، وهو ما يرفضه الجيش المصري.
ونقلت صحيفة “هآرتس” الجمعة عن مصادر القول إن نتنياهو أبدى خلال اجتماع للحكومة استعداده لبحث تسليم السلطة في غزة إلى “كيانات محلية غير تابعة لحماس”. وكان وزير الدفاع يوآف غالانت أعلن أنه لن يوافق على حكم إسرائيلي عسكري في غزة بعد انتهاء الحرب والقضاء على حماس، وطلب تشكيل هيئة حكم بديلة لحماس.
وأعلنت الولايات المتحدة إنجاز إرساء الميناء العائم المؤقت قبالة شواطئ غزة، في خطوة قالت إنها تساهم في زيادة إيصال المساعدات إلى القطاع المهدّد بمجاعة في ظل الحرب المتواصلة منذ أكثر من سبعة أشهر بين إسرائيل وحركة حماس.
وكشف الرئيس الأميركي جو بايدن في مارس الماضي عن إنشاء هذا الميناء بكلفة لا تقل عن 320 مليون دولار، في إطار جهود دولية للالتفاف على القيود التي قالت منظمات دولية إن إسرائيل تفرضها على إدخال المساعدات برا إلى غزة.
ويتم تفتيش سفن المساعدات في قبرص قبل انطلاقها إلى المنصة البحرية الجديدة في غزة، ثم تُحمّل على شاحنات بعيد وصولها وتفريغها لنقلها إلى القطاع، وتتم عملية التسليم والتسلم عن طريق عناصر تابعة للأمم المتحدة.