إسرائيل تدق إسفين قرة باغ بين تركيا وإيران

قد لا تُحدث خطابات الاعتمادات الاقتصادية المعلنة في منطقة القوقاز وبحر قزوين الفارق ما دامت إسرائيل تعمل بجد وإيران تؤكد وجودها، وتسعى روسيا إلى درء التحدي التركي في جنوب القوقاز، وربما بين الأقليات التركية المسلمة في روسيا، وكذلك الجمهوريات السوفيتية السابقة في آسيا الوسطى، وهي مناطق اعتبرتها موسكو منذ فترة طويلة ملكاً لها.
لندن - بمجرد مراقبة تداعيات القصيدة التي ألقاها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في احتفال أقيم الأسبوع الماضي في أذربيجان، والاستياء الذي عبرت عنه إيران من القصيدة، بكونها تمس مناطق تابعة لها وتضعها ضمن أذربيجان، نكتشف أن حرب التصريحات والجيوش والطائرات المسيرة أكثر تعقيدا بين من يعتبرون حلفاء وبين من يعدهم التاريخ أعداء.
يحاول المراقبون الإجابة على تساؤلات متقاطعة، ما الذي يجعل إيران تقف مع أرمينيا وما الذي يجمع بين تركيا وإسرائيل في دعم أذربيجان في الصراع على ناغورني قرة باغ وهي منطقة ذات أغلبية عرقية أرمنية في الأراضي الأذريّة؟ إذا كان الدعم التركي مفهوما إلى حد ما بسبب الخلاف التاريخي الذي ارتكبه الأتراك في إبادة الأرمن، فإن إيران الشيعية تفضل دعم أرمينيا، بدلا من الوقوف مع أذربيجان التي يشكل الشيعة غالبية فيها.
وتجمع إجابات المحللين السياسيين على أن بحر قزوين ساحة حرب قديمة جديدة تبدأها الجيوش وتتبعها إغراءات المشاريع الاقتصادية، ومعركة ناغورني قرة باغ ليست إلا تذكيرا بها.
الدعم الإسرائيلي لأذربيجان
سبق وأن بسط مسؤول إسرائيلي فكرة الدعم لأذربيجان “كانت المعادلة بسيطة. تمتلك أذربيجان ثلاثة أصول استراتيجية تهتم بها إسرائيل: المسلمون والنفط وعدة آلاف من اليهود. كل ما يجب على أرمينيا أن تقدمه في أحسن الأحوال هو سبعمئة يهودي فقط”.
وامتلكت أذربيجان أحد أهم الأصول الأخرى: وهي العلاقات السياسية والأمنية والطاقة الوثيقة بتركيا، التي كانت تدعمها في أعمالها العدائية مع أرمينيا. ونتيجة لذلك، ساعد اللوبي المؤيد لإسرائيل والمنظمات اليهودية الأميركية التي لها علاقات طويلة الأمد مع تركيا لسنوات أنقرة على إحباط مقترحات في الكونغرس الأميركي لإحياء ذكرى الإبادة الجماعية للأرمن عام 1915.
وقد تغير ذلك في السنوات الأخيرة بعد أن أصبحت التوترات بين تركيا وإسرائيل أكثر حدة بشأن قضايا مثل وضع القدس الشرقية، التي تحتفظ بها إسرائيل منذ حرب الأيام الستة عام 1967، والقضية الفلسطينية، وإيران، والإسلام السياسي، وترويج الرئيس رجب طيب أردوغان لنظريات المؤامرة المعادية للسامية ضمنيا.
ولم تتغير علاقات إسرائيل الوثيقة مع أذربيجان التي تضعها في نفس الجانب مع تركيا في العداء المتجدد بين أرمينيا وأذربيجان بعد هزيمة الأولى في حرب ناغورني قرة باغ الثانية.
ويفسر جيمس دورسي، الباحث بمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، ذلك بالقول “هذا انعكاس للروابط التي لا تنفصم بين حوض بحر قزوين والصراعات التي لا تعد ولا تحصى في الشرق الأوسط الكبير والطبيعة المتغيرة والهشة للتحالفات الإقليمية والشراكات والعداوات عبر الأراضي الأوروآسيوية”.
ويشدد سفانت كورنيل في مقال نشر بمجلة “باكو دايالوغ” على هذه النقطة المهمة، مشيرا إلى “الاندماج التدريجي للجغرافيا السياسية لجنوب القوقاز والشرق الأوسط” وذهب إلى حد القول إن أذربيجان، على وجه الخصوص “أقرب مكان مرتبط بديناميكيات الشرق الأوسط أكثر مما كانت عليه خلال قرنين من الزمان”.
وتحتل كل من تركيا، التي لديها شراكات نفعية مع روسيا وإيران، وكلتاهما من الدول المطلة على بحر قزوين التي دفعت من أجل وقف إطلاق النار ويُنظر إليها على أنها متعاطفة مع أرمينيا، وإسرائيل، بعلاقاتها الوثيقة مع موسكو، المرتبة الأولى بين موردي الأسلحة لأذربيجان.
وأكد أحد كبار مساعدي الرئيس الأذري، إلهام علييف، أن الجيش الأذري كان يستخدم طائرات ذاتية القيادة إسرائيلية وتركية قاتلة في حرب ناغورني قرة باغ الثانية التي بدأت في أواخر سبتمبر.
ويقول دورسي “إذا بدت إسرائيل وتركيا شريكتين غريبتين، فإن السعودية والإمارات تبدوان وكأنهما في مأزق. حيث استثمرت الدولتان الخليجيتان في أذربيجان لمواجهة النفوذ الإيراني في بحر قزوين، لكن يبدو أنهما تميلان إلى تفضيل أرمينيا بسبب الموقف من تركيا، التي يتهمانها بالتدخل في الشؤون العربية الداخلية”.
وعلى نفس المنوال، فإن العلاقات الإسرائيلية مع أذربيجان، التي عملت جاهدة لتعميق علاقاتها مع إيران، قد تضعها على طرفي نقيض مع الإمارات والبحرين اللتين أقامتا معها علاقات دبلوماسية مؤخرا من أجل تعزيز تحالفهما ضد إيران وتركيا. وبخلاف ذلك، قد يكون هذا أحد الأمثلة التي قد نجد فيها دول الخليج وإسرائيل على جوانب مختلفة من الانقسام تأتي في صالح الدولة اليهودية.
وقال صادق أونكو، محلل العلاقات الدولية في تركيا “الرسالة المرسلة من تل أبيب إلى طهران واضحة للغاية ‘سوريا هي ملعبنا، وسنكون في أذربيجان لمراقبتكم'”.
وتشير مصادر إسرائيلية إلى أن حرب ناغورني قرة باغ من المحتمل أن تخلق فرصة لإجراء تغيير خلفي يمكن لإسرائيل من خلاله أن تدق إسفينا بين تركيا وإيران.
وقال المعلق الإسرائيلي البارز أنشل بفيفر “إن شحنات الأسلحة إلى أذربيجان والحرب في منطقة ناغورني قرة باغ تعدّ بمثابة تذكير بأن تحالف الأطراف قد لا يموت بالكامل”.
وكان بفيفر يشير إلى السياسة الإسرائيلية قبل فتح العلاقات مع الدول العربية للحفاظ على علاقات وثيقة مع جيرانها من غير العرب في غياب العلاقات الإسرائيلية الرسمية مع جيرانها العرب.
وفي ظل تواجد الأذريين العرقيين، الذين يمثلون ما يصل إلى ربع سكان إيران ولديهم نفوذ في هيكل السلطة في البلاد، فإن طهران، التي غالبا ما يُنظر إليها على أنها مؤيدة لأرمينيا، دعت إلى وقف إطلاق النار في حرب ناغورني قرة باغ الثانية وعرض وضع حد للقتال.
وهذا يفسر حساسية العلاقة بين إيران وتركيا عندما يتعلق الأمر بالأذريين في إيران، لذلك نشب خلاف دبلوماسي مع تركيا تسبب فيه ترديد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قصيدة خلال زيارة لأذربيجان وصفتها إيران بأنها تهديد لوحدة أراضيها.
واستدعت وزارة الخارجية الإيرانية السفير التركي الأسبوع الماضي، بعد أن قرأ أردوغان خلال زيارة لأذربيجان قصيدة لشاعر إيراني من أصل أذري تتحدث عن تقسيم أرض أذربيجان بين روسيا وإيران في القرن التاسع عشر.
وأبدت طهران قلقها من أن تكون قراءة القصيدة تشكيكا في وحدة أراضي إيران وأن تعزز الميول الانفصالية بين أبناء الأقلية الأذرية فيها.
إيران وروسيا

وحتى قبل اندلاع الأعمال العدائية بين أرمينيا وأذربيجان في المناطق الداخلية الشمالية الغربية لبحر قزوين، عززت إيران مواقعها البحرية على الساحل الجنوبي للحوض.
وأثار محللون مثل بول غوبل، والكاتب الروسي المحافظ، كونستانتين دوشينوف، وكذلك قادة البحرية الإيرانية، شبح العقوبات الأميركية التي تخرق التعاون العسكري بين موسكو وطهران في منطقة قزوين وخارجها. هؤلاء وغيرهم من المحللين – في ما يبدو أنه تكرار لتقارير غير مؤكدة عن توثيق التعاون الإيراني الصيني الذي زاد من السذاجة ولكن تم تعميمه لفترة طويلة وتمت مناقشته على نطاق واسع في دوائر السياسة – أشاروا إلى أن روسيا وإيران تخططان لتعاون عسكري موسع، بما في ذلك التدريبات البحرية في بحر قزوين وكذلك في الخليج ومضيق هرمز.
وزعم المحللون، بمن فيهم دوشينوف، والذي ورد أنه سُجن منذ عقد بتهمة التحريض ضد السامية، أن إيران عرضت على روسيا منشآت بحرية في ثلاثة موانئ – تشابهار، وبندر عباس وبندر بوشر – على طول الساحل الإيراني، في خطوة تنتهك مبدأها التأسيسي بعدم وجود أي أجنبي على أراضيها.
هذه الخطوة قد تتعارض أيضاً مع اقتراح إيران بشأن إنشاء هيكل أمني إقليمي في الشرق الأوسط يستبعد مشاركة قوى غير إقليمية. ومع ذلك، ومما زاد من ضرورة اتخاذ موقف أكثر حزما، هو تكثيف كبار الضباط الإيرانيين من زياراتهم للمنشآت البحرية وأحواض بناء السفن على ساحل بحر قزوين الإيراني حيث يتم إصلاح وتحديث مدمرة هناك.
وقد أكد المسؤولون، بمن فيهم قائد البحرية الإيرانية الأدميرال حسين خانزادي ونائبه الأدميرال حبيب الله سياري والأدميرال أمير راستغاري (الذي يُقال إنه يشرف على البناء البحري)، على أهمية بحر قزوين بالنسبة إلى الأمن القومي الإيراني في جولات للمرافق على طول الساحل.
وتوصف التحركات الإيرانية بأكثر من مجرد تعزيز الوجود العسكري للدولة في حوض تشترك فيه مع روسيا وأذربيجان وتركمانستان وكازاخستان.
وستسمح العلاقات البحرية الأوثق مع دول بحر قزوين لإيران بالاستفادة من موقفها في الوقت الذي يشعر فيه سكان آسيا الوسطى بالقلق من التدخل الأمني الصيني في هذا الجزء الخاص بهم من العالم.
ويهدد هذا التعاون التفاهم الضمني الذي تحملت فيه روسيا المسؤولية عن الأمن الإقليمي، بينما تركز الصين على التنمية الاقتصادية.
ماذا تترقب المنطقة
ومن المرجح أن تؤدي هزيمة أرمينيا المهينة على يد أذربيجان التي تدعمها أنقرة، إلى تحويل حوض بحر قزوين إلى ساحة معركة أخرى في صراعات متعددة على السلطة عبر الشرق الأوسط الكبير بهدف تشكيل نظام إقليمي جديد.
ولا يبشر الشعور الأذري والتركي بالنصر الأخلاقي والعسكري، إلى جانب سياسات أردوغان الإقليمية الحازمة، بالخير لأن أذربيجان ستوازن بين نجاحها والتأكد من أن السكان الأرمن في ناغورني قرة باغ ستتم حمايتهم والحفاظ على سلامتهم وأمنهم وحقوقهم وسط مخاوفهم من التهجير أو حتى التطهير العرقي.
كما أن ذلك – وفق دورسي – سيثير الشكوك حول العلاقات طويلة المدى بين روسيا وأرمينيا، حيث يشعر الكثيرون بالخيانة بسبب رفض موسكو تقديم المساعدة لأرمينيا بموجب اتفاقية دفاع بين الدولتين.
ومن المحتمل أن تشعر روسيا بالقلق بشأن الأصوات القومية التركية التي تطالب تركيا بالاستفادة من نجاح أذربيجان في زيادة نفوذها في آسيا الوسطى، وهو إعادة اتحاد جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة التي لها روابط عرقية وثقافية ولغوية مع تركيا.
وحتى الآن، يبدو أن رهان تركيا على أن التاريخ سيعيد نفسه يؤتي ثماره إلى حد ما، لكن إلى متى سيستمر! حيث تواجه قدرة موسكو على الحفاظ على الاستقرار تحديًا في جنوب القوقاز، وهي أحدث منطقة سوفيتية سابقة، بعد الأزمات السياسية في بيلاروسيا وقيرغيزستان والهزيمة الانتخابية للقوات الموالية لروسيا في مولدوفا.
وفي الوقت الحالي، عزز أردوغان موقفه في ما سيؤدي حتما إلى إعادة تنظيم ميزان القوى في القوقاز ليس فقط بين روسيا وتركيا، ولكن أيضا مع إيران، في وقت تكون فيه مقايضة الدعم الإسرائيلي لأذربيجان من خلال قدرة الدولة اليهودية على مراقبة إيران.