إسرائيل تخطط لوجود طويل الأمد في غزة ولبنان وسوريا

العمليات العسكرية المتواصلة في قطاع غزة تتحول إلى عملية لإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية والأمنية.
الخميس 2025/04/17
إسرائيل تعيد تشكيل جوارها

تل أبيب - رغم ما روّج سابقا عن طبيعة “مؤقتة” لتمركز الجيش الإسرائيلي في عدد من المناطق الحدودية في كل من غزة ولبنان وسوريا، يبدو أن تل أبيب بصدد تثبيت واقع جديد على الأرض يعكس تحولا إستراتيجيا في نظرتها إلى أمنها الإقليمي.

وأعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس الأربعاء أن قوات الجيش الإسرائيلي ستبقى بشكل دائم في ما وصفه بـ”المناطق الأمنية” داخل هذه المناطق، مشيرا إلى أن الهدف هو خلق حزام أمني يفصل إسرائيل عن التهديدات القادمة من حماس في غزة، وحزب الله في لبنان، والجماعات المسلحة في جنوب سوريا.

ويعكس التحول في الخطاب الرسمي الإسرائيلي تغيرا إستراتيجيا عميقا، إذ لم يعد الجيش الإسرائيلي، بحسب كاتس، مستعدا للانسحاب من الأراضي التي يسيطر عليها، على عكس ما كان يحدث في السابق.

ويقول محللون إن العمليات العسكرية المتواصلة في قطاع غزة منذ أكثر من عام ونصف، والتي تهدف رسميا إلى “تفكيك” حركة حماس، قد تحولت من حملة عسكرية إلى عملية لإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية والأمنية في القطاع.

ما كان يصور في السابق كتمركز عسكري طارئ تحول إلى خط تماس ثابت، لا يبدو أن إسرائيل في وارد التراجع عنه قريبا

وحثت إسرائيل مئات الآلاف من الفلسطينيين على مغادرة مناطقهم، وقامت بإعلان مساحات واسعة كمناطق أمنية مغلقة، بعضها على الحدود الشرقية للقطاع، وأخرى داخلية تفصل بين الشمال والجنوب، مثل المناطق الواقعة بين رفح وخان يونس.

ولا يشير هذا التوسع في “المناطق الأمنية” فقط إلى إستراتيجية ميدانية، بل أيضا إلى مسعى إسرائيلي لترسيخ واقع حدودي جديد، دون إعلان رسمي عن إعادة ترسيم أو ضم.

وفي لبنان، لم يختلف المسار كثيرا، إذ يواصل الجيش الإسرائيلي التمركز في خمس نقاط إستراتيجية على الحدود الجنوبية، متراجعا عن تصريحات سابقة قالت إن التواجد هناك مؤقت.

وبررت إسرائيل هذا الانتشار بضعف أداء الجيش اللبناني، وبمخاوفها من تصعيد محتمل من قبل حزب الله. لكنها عمليا أعادت إحياء معادلة الاحتلال الناعم، الذي يذكر بمرحلة ما قبل انسحاب عام 2000، مع فارق أن هذا الوجود لم يأتِ نتيجة اجتياح واسع النطاق، بل ضمن ما تصفه إسرائيل بـ”حرب استباقية وقائية”، هدفها منع أي تهديد قبل أن يتشكل.

وأما في سوريا، فقد بدا أن التطورات الأخيرة بعد الإطاحة بحكم الرئيس بشار الأسد قد فتحت لإسرائيل نافذة جديدة لتوسيع نفوذها الأمني على الأرض.

وبالإضافة إلى هضبة الجولان التي ضمتها إسرائيل سابقا، نشرت قواتها قرب المناطق العازلة الخاضعة لإشراف الأمم المتحدة، مبررة ذلك بالحاجة إلى وقف خطوط الإمداد التي تمر منها الأسلحة من إيران إلى حماس وحزب الله.

وعلى الرغم من أن هذا الوجود وصف في البداية بأنه “إجراء مؤقت”، كما صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فإن تصريحات كاتس الأخيرة تضع هذه الخطوة في سياق أكثر ديمومة.

ويعكس التحول من “المؤقت” إلى “الدائم” إستراتيجية إسرائيلية متكاملة تهدف إلى إدارة التهديدات الإقليمية عبر خلق وقائع جغرافية جديدة على الأرض باستخدام أدوات القوة العسكرية والمبررات الأمنية.

وبدلا من الاعتماد على الردع وحده أو على الوساطات الدولية، باتت إسرائيل تميل إلى تثبيت وجودها في نقاط التماس الأكثر حساسية، ما يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من التوترات، ليس فقط مع القوى المحلية كحماس وحزب الله، بل مع الأطراف الدولية التي ترى في هذه التحركات انتهاكا للقانون الدولي.

دعم ثقيل للتواجد العسكري على خط التماس
دعم عسكري ثقيل على خط التماس

وفي المقابل، تبدو البيئة الإقليمية، الممزقة بين الصراعات الداخلية وتغير موازين القوى، غير قادرة حتى الآن على تشكيل رد منسق أو موحد. كما أن حالة الغموض بشأن مستقبل سوريا، والجمود في المسار السياسي الفلسطيني، واستمرار الضغوط الغربية على إيران، كلها عوامل تسمح لإسرائيل بمواصلة فرض هذا النوع من الوقائع، دون كلفة سياسية.

ويشير مراقبون إلى أن ما كان يصوّر في السابق كتمركز عسكري طارئ تحول إلى خط تماس ثابت، لا يبدو أن إسرائيل في وارد التراجع عنه قريبا، بل على العكس، تسير نحو تثبيته كجزء من عقيدتها الأمنية الجديدة، والتي قد تكون مقدمة لتغييرات أوسع في خارطة النزاع في الشرق الأوسط.

وتأتي التحركات الإسرائيلية الأخيرة في إطار مرحلة جديدة من إعادة صياغة إستراتيجيتها الأمنية بعد التحولات الإقليمية الكبرى التي شهدتها السنوات الأخيرة، وعلى رأسها اندلاع الحرب في غزة منذ أكتوبر 2023، وامتدادها إلى توترات دائمة على الجبهتين الشمالية (لبنان) والشرقية (سوريا).

ومنذ عقود، اعتمدت إسرائيل في مناطق التماس على مبدأ الردع والانسحاب التكتيكي بعد تنفيذ عمليات محدودة. لكن بعد عملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها حركة حماس، وما تبعها من حملة عسكرية غير مسبوقة على قطاع غزة، أصبحت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أكثر اقتناعا بأن الانسحاب الكامل من أي منطقة حدودية يخلق فراغا سرعان ما تملؤه قوى معادية مدعومة من إيران، مثل حماس أو حزب الله أو المجموعات المسلحة في الجنوب السوري.

وأعادت إسرائيل تفعيل “المناطق الأمنية”، التي سبق أن استخدمتها خلال احتلالها لجنوب لبنان (1982 – 2000)، وكذلك في محيط غزة خلال الانتفاضات، إلا أن الجديد هذه المرة هو الإعلان الصريح عن نية البقاء العسكري طويل الأمد.

6