إستراتيجية دفاعية جديدة تعيد تشكيل دور بريطانيا في أمن أوروبا

لندن - في تحول لافت في نهج السياسة الدفاعية البريطانية، أكد رئيس الوزراء كير ستارمر أمس الأحد أن المملكة المتحدة تدخل مرحلة “ترميم الجاهزية القتالية” في مواجهة عالم أكثر اضطرابا، يتصدر مشهده العدوان الروسي المتصاعد والضغوط المتزايدة على الحلفاء الأوروبيين من قبل الولايات المتحدة لإعادة تعريف أدوارهم داخل منظومة حلف شمال الأطلسي.
ولا يعكس الإعلان عن مراجعة الإستراتيجية الدفاعية فقط تبدّلًا في الأولويات البريطانية بعد سنوات من التقشف العسكري، بل يكرّس مقاربة جديدة ترى في القوة الصلبة ركيزة ضرورية لموقع بريطانيا على الساحة الدولية.
وتظهر الخطوة إدراكا بريطانيا متناميا بأن البيئة الأمنية في أوروبا لم تعد تحتمل الرهانات المؤجلة أو الاعتماد الحصري على الردع الجماعي.
وبينما تستمر الحرب في أوكرانيا باستنزاف المنظومة الغربية وتسليحها، تتزايد المؤشرات إلى أن موسكو لا تكتفي بالميدان العسكري التقليدي، بل تصعّد هجماتها السيبرانية يوميًا على بنى تحتية غربية، بما فيها البريطانية، في محاولة لتقويض الجاهزية الدفاعية والإرباك الإستراتيجي.
وتأتي هذه المراجعة الدفاعية في سياق محلي وإقليمي حساس، حيث تعهدت حكومة ستارمر برفع الإنفاق العسكري إلى 2.5 من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2027، مع طموح غير معلن لبلوغ 3 في المئة في الدورة التشريعية المقبلة.
تقديرات استخباراتية غربية تشير إلى أن روسيا والصين تواصلان الاستثمار المكثف في تطوير تقنيات قادرة على إحداث اختراقات نوعية في ميزان القوى
وتبدو هذه الزيادة ليست مجرد استجابة لحرب في أوكرانيا أو تحذيرات واشنطن، بل هي جزء من تصور أشمل يُعيد الاعتبار للصناعة الدفاعية الوطنية كضامن للأمن القومي.
ويُترجم ذلك ماديًا في خطط استثمار 1.5 مليار جنيه إسترليني لبناء ستة مصانع جديدة لإنتاج الذخائر، وخلق ما يصل إلى 1800 وظيفة، مع رفع موازنة الذخائر إلى 6 مليارات خلال الدورة البرلمانية الحالية.
وبعيدًا عن الإنفاق، تشير التصريحات الحكومية إلى نقلة نوعية في التفكير العسكري: دمج الذكاء الاصطناعي، والطائرات المسيّرة، والقدرات السيبرانية، ضمن منظومة قتالية متكاملة قادرة على خوض حروب الجيل القادم. فالتحديث المرتقب، الذي أعده الأمين العام السابق لحلف الناتو جورج روبرتسون، يضع روسيا في خانة “الخطر الفوري والداهم”، بينما تُعامل الصين كتحدٍ استراتيجي طويل المدى، مما يعكس وعياً بريطانياً بأن النزاعات لم تعد تنحصر في الجغرافيا، بل تمتد إلى الفضاء الرقمي والمجالات الصناعية واللوجستية.
ولا يهدف هذا التحول فقط إلى تأمين الحدود البريطانية أو ضمان التزامات لندن في الناتو، بل يمثل رسالة ردع واضحة موجهة للخصوم مفادها أن بريطانيا ما بعد بريكست لا تنكفئ، بل تعيد رسم تموضعها العسكري على أسس جديدة، توازن بين التصعيد الروسي، والتحولات التكنولوجية، والضغوط الأميركية لإعادة توزيع أعباء الدفاع الغربي.
وتراهن حكومة ستارمر على تماهي الداخل البريطاني مع خطط التحديث الدفاعي، مستندة إلى وعي شعبي متزايد بأن التحديات لم تعد نظرية، بل تطرق أبواب الأمن القومي فعليًا.
وبينما تنخرط بريطانيا في إعادة هيكلة بنيتها الدفاعية، يبقى التحدي الأكبر في قدرة هذه الاستراتيجية على خلق توازن طويل الأمد بين الحاجات العملياتية والموارد الاقتصادية.
وتعود الخلفيات التي تفسّر التحوّل الجاري في الاستراتيجية الدفاعية البريطانية إلى سلسلة من التحولات الجيوسياسية والعسكرية المتراكمة خلال العقدين الماضيين، والتي تسارعت بشكل غير مسبوق بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022.
ومنذ ذلك التاريخ، دخلت أوروبا مرحلة جديدة من التهديدات التقليدية وغير التقليدية، ووجدت لندن نفسها مطالبة بإعادة تقييم دورها الدفاعي، ليس فقط كعضو فاعل في حلف شمال الأطلسي، بل كقوة عسكرية مستقلة بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي.

ويُعدّ تراجع الإنفاق العسكري في السنوات السابقة أحد العوامل التي قادت إلى ما يشبه الفجوة في الجاهزية القتالية البريطانية، خاصة بعد عقود من تقليص الموازنات وتفكيك بعض القدرات التصنيعية الوطنية.
وقد حذّر خبراء عسكريون من أن القوات البريطانية لم تعد قادرة على خوض نزاع مطوّل عالي الوتيرة دون دعم خارجي كبير، لاسيما مع الاعتماد الكبير على سلاسل توريد معقدة وموزعة عالميا.
وبات هذا الواقع مكشوفا بشكل خاص منذ بدء الحرب في أوكرانيا، التي كشفت حجم الحاجة إلى صناعات عسكرية قادرة على التجاوب السريع مع الأزمات.
وفي الموازاة، تمارس الولايات المتحدة ضغوطًا متزايدة على حلفائها الأوروبيين لتحمّل مسؤولية أكبر في الدفاع الجماعي، لاسيما في ظل عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وموقفه المعروف من تقليص الالتزامات العسكرية الأميركية خارج الحدود، واعتباره أن على الأوروبيين زيادة مساهماتهم المالية والعسكرية في الحلف الأطلسي.
وتعززت هذه المعادلة بفعل إدراك أوروبي متزايد بأن الاعتماد على واشنطن لم يعد مضمونا في المدى البعيد، وأن على القوى الأوروبية الكبرى – وفي مقدمتها بريطانيا – أن تبني مقومات ردع ذاتي أكثر استدامة.
كما لا يمكن فصل هذا التوجه البريطاني عن سباق التسلح التكنولوجي الجاري عالميًا، حيث باتت الذكاء الاصطناعي، وأنظمة المسيّرات، والقدرات السيبرانية، عوامل مركزية في تصميم إستراتيجيات الدفاع الحديثة.
وتشير تقديرات استخباراتية غربية إلى أن روسيا والصين تواصلان الاستثمار المكثف في تطوير تقنيات قادرة على إحداث اختراقات نوعية في ميزان القوى، سواء من خلال الهجمات السيبرانية أو الطائرات غير المأهولة أو الأسلحة الفرط صوتية.
ويفرض هذا الواقع على المملكة المتحدة إعادة بناء قدراتها بما يتناسب مع طبيعة التهديدات الجديدة، التي لا تقتصر على الجيوش التقليدية، بل تشمل أيضًا فواعل غير حكومية وشبكات هجينة عابرة للحدود.