إرهاب نصف التفاحة
ما حدث منذ أيام قليلة في سوسة التونسية مؤلم. مؤلم جدا لكل العالم، وصادم بالنسبة لتونسية أصيلة مدينة سوسة تربت وكبرت في المنطقة التي شهدت الحادثة، جلست على حافة بحرها ومشت على رملها، واستقبلت أول حب على ترابها.
كنا صغارا ننتظر بوادر أول نسمة عليلة بعد حر يوم قائظ لنذهب إلى هذه الجهة من المدينة، نتنزه ونأكل الآيس كريم ونبل أرجلنا بماء المتوسط العذب، نتنفس هواء البحر، ونملأ أعيننا بالأفق الأزرق الممتد. لم نكن نذهب بنية السباحة، ومع ذلك عندما نصل إلى هناك ننزع، نحن الصغار، ملابسنا وننزل الماء عراة تماما، وأحيانا بقطعة ملابس داخلية واحدة. ثم نخرج راجفين، إلى حيث تجلس أمهاتنا، يلففننا بالمناديل، ويمنحننا سندويتشات الخبز التي أعدت في البيت، ولفت بعناية بورق “السوليفان” لكي لا يدخلها الرمل، لكننا مع ذلك نأكلها، ممزوجة بالرمل العالق بأصابعنا، ومياه البحر التي تقطر منا.
بيننا وبين البحر طفولة مشتركة ورمل وملح، وخبز وذكريات عذاب. ما الذي يحدث في رأس أحدهم لينسى، ويتنكر؟
في لحظة تعاودك هذه الصور، وأنت تسمع خبر الإرهاب، تهجم عليك دفعة واحدة كأنها حدثت البارحة، ولا تفهم الحقيقة: من أين جاء هذا الخراب؟ ما الخلل الذي يجعل شبانا صغارا تربوا داخل عائلات منفتحة، ومروا مثلنا على هذه الشواطئ بللوا أرجلهم بمائها وأرواحهم بسمائها، واستنشقوا رائحتها ملء رئاتهم، يقدمون على فعل كهذا؟
ماذا يحدث لأبنائنا يا عالم؟ ما الذي يدفع طالبا يعيش حياة عادية، يرتدي الشورت، ويسرح شعره الطويل إلى الخلف، ويرقص أحدث الرقصات العصرية، ليلتحق بمعسكر داعشي في ليبيا ليتدرب على القتل والإرهاب؟ أي قوة هذه التي تحرك شبابنا وتدفعهم نحو الهلاك؟ أي طاقة جهنمية؟ كيف نجنب أبناءنا هذا المصير؟
سألني ابني الطفل بعد أن شاهد الحادثة في نشرة أخبار: هل ما زالت رحلتنا إلى تونس قائمة؟ قلت: نعم، نظر إلي وقال: لكنني خائف، ماذا لو تعرضنا لعمل مشابه؟ لماذا قام هذا الشاب بما قام به؟ كدت أقول له: أنا مثلك لا أعرف، لكني في النهاية فضلت أن أستعين بـ”تجربة التفاحة”، التي غالبا ما تنقذني في مثل هذه المواقف.
وتجربة التفاحة هي عبارة عن لعبة بسيطة تعلم الأطفال أهمية الكلام الحسن، وقيمة المحبة، والمعاملة اللطيفة، والعناية بالملافظ. وتقوم التجربة على شق تفاحة إلى نصفين متساويين، يوضع كل نصف منهما في كأس ويغطى بغطاء محكم. ثم يوضع الكأسان في غرفتين مختلفتين من البيت. ولمدة أسبوعين كاملين يتلقى نصف التفاحة الأول الثناء والمدح وعبارات المحبة، من قبيل: ما أجملك! ما أطيب رائحتك، كم أنت لذيذة، ما أروعك، صباح الخير أيتها التفاحة الجميلة. طابت ليلتك، أحلاما لذيذة يا عزيزتي، ويتلقى الجزء الثاني النقيض تماما مثل: ما أقبح وجهك، أنت عفنة وكريهة، كم أنت غبية وتافهة، ابعدي عني وجهك الكريه.. الخ…
مع الوقت يبدأ النصف الذي يتلقى الشتائم ويعامل بكراهية، بالتعفن قبل الثاني، وفي نهاية الفترة المحددة تلاحظ الفرق حتما بين جزء تعفن بالكامل تقريبا، وجزء لا يزال يحظى ببعض من نضارته ولونه الجذاب، رغم انكماشه أو وجود بقع تعفن صغيرة هنا وهناك.
قلت لابني: هذا الشاب هو جزء التفاحة المتعفن، لقد تلقى كلاما كثيرا أفسده، وعفنه، وجعله يفعل ما فعل. وهو ضحية يستحق الشفقة، ولا يجب أن يمنعنا من رؤية الجزء الآخر الجميل الموجود قريبا جدا منه. راقبت وجهه يهدأ وأساريره تنفرج وهو يستدير ليغادر.