إذا كانت الذكاءات الاصطناعية تدير العالم.. فكيف نريدها أن تفعل ذلك

استدعاء أفلاطون وأرسطو للإجابة عن أسئلة يطرحها استخدام الذكاء الاصطناعي.
الجمعة 2024/08/30
الذكاء الاصطناعي بوصفه مشكلة فلسفية

إذا كان الهدف الرئيسي للفلسفة هو الإجابة على الأسئلة الوجودية الكبيرة، فنحن إذن على أعتاب عصر ذهبي للفلسفة بسبب التأثير المتزايد للذكاء الاصطناعي والأسئلة التي يثيرها استخدامه، كما يرى عالم الرياضيات البريطاني ستيفن وولفرام.

لندن – الذكاء الاصطناعي لم يبدأ مع روبوت الدردشة تشات جي بي تي، الحكاية بدأت قبل ذلك بكثير، بالتحديد في 16 مايو 2009، عندما أطلق عالم الرياضيات البريطاني ستيفن وولفرام محرك بحث معرفي حمل اسم وولفرام ألفا.

على عكس محركات البحث التقليدية التي تعرض قائمة من الروابط ذات الصلة بالكلمات المفتاحية، يقوم وولفرام ألفا بالإجابة عن الأسئلة مباشرة باستخدام قاعدة بيانات واسعة من المعلومات.

ويستخدم في ذلك تقنيات تحليل اللغة الطبيعية (NLP) لفهم الأسئلة المطروحة من قبل المستخدمين. هذا يعني أنه يمكنه تفسير الأسئلة المكتوبة بلغة طبيعية وتحويلها إلى صيغة يمكن معالجتها حسابيًا.

ويعتمد على برنامج Mathematica لإجراء الحسابات المعقدة وتحليل البيانات. وهو ما يتطلب مستوى عالٍ من الذكاء الاصطناعي لفهم وتنفيذ العمليات الحسابية بدقة. ويحتوي على قاعدة بيانات ضخمة تشمل معلومات من مختلف المجالات. يستخدم الذكاء الاصطناعي لتنظيم هذه البيانات واسترجاع المعلومات ذات الصلة بسرعة ودقة.

ستيفن وولفرام: الكثير من الأسئلة التي نواجهها الآن بسبب الذكاء الاصطناعي هي في جوهرها أسئلة فلسفية تقليدية
ستيفن وولفرام: الكثير من الأسئلة التي نواجهها الآن بسبب الذكاء الاصطناعي هي في جوهرها أسئلة فلسفية تقليدية

ويستخدم تقنيات التعلم الآلي لتحسين أدائه بمرور الوقت. كلما زاد استخدامه، أصبح أكثر قدرة على تقديم إجابات دقيقة وشاملة. وعلى عكس محركات البحث التقليدية التي تعرض روابط لمواقع تحتوي على المعلومات، يقوم وولفرام ألفا بتقديم إجابات مباشرة ومفصلة بناءً على قاعدة بياناته.

ويتميز بقدرته على إجراء حسابات رياضية معقدة وتقديم حلول فورية، مما يجعله أداة قوية للطلاب والباحثين. ويُستخدم بشكل واسع في الأوساط الأكاديمية لحل المسائل الرياضية وتقديم معلومات دقيقة في مختلف المجالات العلمية.

ويُعتبر أداة قوية للباحثين والعلماء لتحليل البيانات وإجراء الحسابات المعقدة. ويمكن لأي شخص استخدام وولفرام ألفا للحصول على إجابات سريعة ودقيقة حول مجموعة متنوعة من المواضيع.

أما لماذا لم ينتشر وولفرام ألفا على نطاق واسع فذلك يعود لعدة أسباب، منها التسويق المحدود مقارنة بمحركات البحث الأخرى، وقد يكون التكامل المحدود مع التطبيقات والخدمات الأخرى عائقا أمام انتشاره بشكل واسع. ولكن العاملين على تطوير الذكاء الاصطناعي استفادوا إلى جد كبير من إمكانياته.

وكما أن وولفرام ألفا برنامج غير عادي، فإن العالم ستيفن وولفرام الذي عمل على تطويره غير عادي أيضا، حيث نشأ في منزل كانت والدته فيه أستاذة فلسفة في جامعة أكسفورد. لذلك، لم يكن في شبابه المبكر يرغب في التعامل مع هذا الموضوع، لكن وولفرام الأكبر سنًا وربما الأكثر حكمة يرى الآن قيمة التفكير العميق في الأمور. وهو يريد أن يجلب بعضًا من هذه الصرامة الفلسفية إلى أبحاث الذكاء الاصطناعي لمساعدتنا على فهم أفضل للقضايا التي نواجهها مع تزايد قدرات الذكاء الاصطناعي.

في سن الخامسة عشرة نشر وولفرام أول ورقة علمية له، وتخرج من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا بدرجة دكتوراه في سن العشرين، ولا غرابة بعد ذلك أن يطلق عليه لقب الطفل المعجزة. وامتد عمله المثير للإعجاب عبر العلوم والرياضيات والحوسبة، فقد طور Mathematica وهو نظام برمجي متقدم يستخدم في العديد من المجالات العلمية والهندسية، ومحرك البحثWolfram Alpha وWolfram Language وهي لغة برمجة حسابية قوية.

بعد نصف قرن من العمل في مجال الرياضيات والعلوم والبرمجة، يعيد وولفرام اكتشاف الفلسفة التي نفر منها صغيرا. وفي لقاء مطول مع موقع (تك كرانش) يقول وولفرام متذكرا: “عملي الرئيسي في الحياة، إلى جانب العلوم الأساسية، كان بناء لغتنا الحسابية وولفرام بحثا عن طريقة للتعبير عن الأشياء حسابيًا تكون مفيدة لكل من البشر وأجهزة الكمبيوتر”.

اليوم ومع بدء مطوري الذكاء الاصطناعي في التفكير بشكل أعمق حول مسائل تتعلق بتقاطع أجهزة الكمبيوتر مع الناس، يقول وولفرام إن الأمر أصبح تمرينا فلسفيا، يتضمن التفكير في المعنى النقي للآثار المترتبة عن هذا النوع من التكنولوجيا على الإنسانية. إنه نوع من التفكير المعقد مرتبط بالفلسفة الكلاسيكية. ويضيف: “السؤال هو ما الذي تفكر فيه، وهذا نوع مختلف من الأسئلة، وهو سؤال يوجد أكثر في الفلسفة التقليدية منه في العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات التقليدية”.

على سبيل المثال، عندما نبدأ في الحديث عن كيفية وضع حواجز تحمينا من الذكاء الاصطناعي، فإن هذا يطرح في الأساس أسئلة فلسفية: “في صناعة التكنولوجيا، عندما يتحدث الناس عن تضمين هذا الشيء أو ذاك مع الذكاء الاصطناعي، قد يقول البعض: دعنا نجعل الذكاء الاصطناعي يقوم بالشيء الصحيح (أخلاقيا). وهذا يقودنا للتساؤل: حسنًا، وما هو الشيء الصحيح؟ تحديد الخيارات الأخلاقية هو تمرين فلسفي”.

ويتحدث وولفرام عن “مناقشات مرعبة” مع شركات تطور الذكاء الاصطناعي في العالم، دون التفكير بوضوح في هذا الأمر: “المحاولة السقراطية لمناقشة كيفية التفكير في هذه الأنواع من القضايا، صادمة تبين مدى جهل الناس بهذه القضايا. الآن، لا أعرف كيف أحل هذه القضايا. هذا هو التحدي. لكنه مكان مناسب على ما أعتقد لطرح هذا النوع من الأسئلة الفلسفية المهمة”.

إذا كان العمل الرئيسي للفلسفة هو الإجابة عن الأسئلة الوجودية الكبيرة، فإننا كما يقول وولفرام ندخل في عصر ذهبي للفلسفة بسبب التأثير المتزايد للذكاء الاصطناعي وجميع الأسئلة التي يثيرها

العلماء بشكل عام يجدون صعوبة في التفكير في الأمور من الناحية الفلسفية: “ما لاحظته وهو أمر لافت للنظر، أنك عندما تتحدث إلى العلماء، حول أفكار جديدة وكبيرة، يقعون في نوع من الإرباك. في العلم، هذا ليس ما يحدث عادةً”. مضيفا: “العلم هو مجال متدرج لا تتوقع فيه أن تواجه طريقة مختلفة تمامًا في التفكير في الأمور”.

إذا كان العمل الرئيسي للفلسفة هو الإجابة عن الأسئلة الوجودية الكبيرة، فإننا كما يقول وولفرام ندخل في عصر ذهبي للفلسفة بسبب التأثير المتزايد للذكاء الاصطناعي وجميع الأسئلة التي يثيرها.

وفي رأيه، الكثير من الأسئلة التي نواجهها الآن بسبب الذكاء الاصطناعي في جوهرها أسئلة فلسفية تقليدية، مؤكدا: “مجموعات الفلاسفة الذين أتحدث إليهم أكثر مرونة عندما يفكرون بشكل نموذجي حول أنواع مختلفة من الأمور”.

إحدى هذه اللقاءات التي تحدث عنها كانت مع مجموعة من طلاب الماجستير في الفلسفة في كلية رالستون في سافانا، الولايات المتحدة. تحدث وولفرام إلى الطلاب عن تصادم قادم بين الفنون الليبرالية والفلسفة من جهة وبين التكنولوجيا من جهة أخرى. في الواقع، يقول وولفرام إنه أعاد قراءة “الجمهورية” لأفلاطون لأنه يريد العودة إلى جذور الفلسفة الغربية في طريقة تفكيره الخاص.

وتوجه إلى الطلاب متسائلا: “إذا كانت الذكاءات الاصطناعية تدير العالم، كيف نريدها أن تفعل ذلك؟ كيف نفكر في هذه العملية؟ وما هو نوع التحديث الذي يجب أن يطبق على الفلسفة في زمن الذكاء الاصطناعي؟ هذه الأنواع من الأمور، تعود مباشرة إلى الأسئلة الأساسية التي تحدث عنها وطرحها أفلاطون”.

رومي ألبرت، طالب في برنامج رالستون، قضى حياته المهنية في العمل في علم البيانات وشارك أيضًا في مدرسة وولفرام الصيفية، وهو برنامج سنوي مصمم لمساعدة الطلاب على فهم نهج وولفرام في تطبيق العلم على الأفكار التجارية، كان مفتونًا بتفكير وولفرام علق قائلا: “من المثير جدًا للاهتمام أن شخصًا مثل الدكتور وولفرام لديه مثل هذا الاهتمام بالفلسفة، وأعتقد أن هذا يتحدث عن أهمية الفلسفة والنهج الإنساني للحياة. لأنه يبدو لي، أنه قد تطور كثيرًا في مجاله الخاص، (لقد تطور) إلى سؤال فلسفي أكثر”.

وولفرام، الذي كان غارقا في علوم الكمبيوتر لمدة نصف قرن، يرى اليوم الروابط التي تجمع بين الفلسفة والتكنولوجيا، ويمكن أن يكون هذا إشارة إلى أن الوقت قد حان لبدء طرح ومعالجة أسئلة حول استخدام الذكاء الاصطناعي بطريقة أوسع بكثير من مجرد كونها مشكلة رياضية. وربما يكون جلب الفلاسفة إلى النقاش طريقة جيدة لتحقيق ذلك.

12