إبراهيم عيسى: جرح عمره 1400 عام أنتج الإرهاب الديني

البحث في سيرة قاتلي عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب يقود إلى الكشف عن حقائق تاريخية مثيرة للجدل.
الأحد 2018/11/04
غوص مثير في المناطق المحظورة

يتفق الكتاب والخبراء والباحثون، في مختلف الاختصاصات، على أن ظاهرة الإرهاب التي تضرب العالم اليوم تعود في جزء كبير منها إلى خطاب يحمل صفة “الديني” وأن من بين وسائل الوقاية الضرورية تجديد هذا الخطاب وتنقيحه، لكن يبقى هذا المطلب محل انتقاد وحتى رفض من بعض رجال الدين والسلفيين الذين يقفون حراسا على باب هذا التاريخ يمنعون بقوة الترهيب وحتى السلاح كل من يجرؤ على فتح هذا الباب، كما هو الحال مع الكاتب والصحافي المصري إبراهيم عيسى، الذي اختار أن يسلك هذا الطريق الشائك متحدّيا محاولات الاغتيال التي تعرض لها والتهديدات التي تطل برأسها مع كل مؤلف جديد له في معركة تحتاج نفسا طويلا وإرادة، فليس من السهل نفض الغبار عن تاريخ طويل تعرض للتشويه والتسييس والتلاعب ورغم ذلك أحيط بهالة من القدسية.

القاهرة - إراقة للدماء وقتلى يتساقطون في كل مكان وسط هتاف “الله أكبر”، هذه المشاهد ليست من فيلم عن تاريخ الإسلام، بل مشاهد من الواقع الراهن. اختلطت الصور والمفاهيم وكثرت التأويلات وكثر معها القتل باسم الدين ما دفع الكاتب المصري إبراهيم عيسى إلى اختراق المحظور ونزع القداسة عن تاريخ المسلمين الذي حوله البعض إلى مبرر لجرائمهم.

ليس غريبا أن يُغرّد إبراهيم عيسى خارج السرب، فمنذ أن خطا خطواته الأولى في عالم الكتابة وهو خارج السرب، مصطدم مع الأعراف والتقاليد المرسومة، مسكون بالمشاغبة مع السلطة، سياسية أم دينية، مولع بفتح الجراح، ومهموم بالكلام عن المسكوت عنه.

التقت “العرب” بعيسى في منزله بمدينة 6 أكتوبر، جنوب غرب القاهرة، لتتابع أسرار روايته الأخيرة “حروب الرحماء”، وتفتش عن خبايا الدخول إلى منطقة وعرة في التاريخ الإسلامي نادرا ما يقف على عتبتها الأدباء والباحثون، حذرا وتسليما بفكرة عدم الاقتراب من الصحابة نقدا أو بحثا.

ويكشف عيسى أن التنامي المفزع لجماعات القتل باسم الدين، والتي وضعته مرتين ضمن قوائم المستهدفين خلال التسعينات، حفّزه أكثر على المضي قدما في مشروعه، لافتا إلى أنه كان يريد أن يعرف ما الذي دفع شبابا غضا إلى الاعتقاد بأن “القتل” (الذي يصور على أنه جهاد) طريق من طرق التقرب إلى الله.

ومع أنه يكتب الرواية منذ بداية عمله الصحافي، ورغم وصول روايته “مولانا” الصادرة عام 2012 إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية، قبل تحويلها إلى فيلم سينمائي حقق نجاحا كبيرا، فإنه كان يرغب في تأكيد موهبته غير المبنية على تحقق إعلامي، فقرر خوض التجربة في مجال صعب، راسما السمات الشخصية للصحابة بعد دراسات وبحوث مطولة في كتب التاريخ.

بكيت وأنا أتخيل مشهد قتل عثمان بن عفان. واستعدت مشاهد تكفير كل فئة للأخرى، وتعجبت كيف استخدم الدين لأغراض الحكم… واندهشت من مشهد غزو عمرو بن العاص لمصر للمرة الثانية خلال الحرب بين علي ومعاوية، لا ليهدي شعبها إلى التوحيد كما فعل في المرة الأولى، وإنما ليستولي عليها لتصبح تابعة لمعاوية بن أبي سفيان بدلا من علي بن أبي طالب

قرر عيسى أن ينقّب وراء تجار الدين، فعاد بدوره إلى الماضي، وفتح كتب التاريخ وحلّل الوقائع والأحداث، مفتشا عن أصل المسألة، وعن الخطوات الأولى للقتل باسم الدين، وبواكير الإرهاب الديني، ليقدّم للأدب العربي سلسلة “القتلة الأوائل”.

يرى عيسى أن كل ما نعيشه الآن من محن سببه جرح مفتوح منذ 1400 سنة، ما زلنا نعاني من آثاره الجانبية دون أن يسعى أحد إلى تنظيفه وقراءته بصدق وصراحة، حيث يتناول ما أُطلق عليه تهوينا “الفتنة الكبرى”، ساردا ما دفع صحابة الرسول، الموصوفين بـ”خير جيل الإسلام” إلى قتال بعضهم بعضا، بادئا برواية رحلة الدم (2016)، ثم مقدما الجزء الثاني من “حروب الرحماء” مؤخرا، وفي الطريق الجزء الثالث الذي لم يختر له الاسم بعد.

حاول طه حسين في كتابه البحثي “الفتنة الكبرى” أن يحلل الأسباب والدوافع التي دفعت أصحاب النبي محمد إلى قتال بعضهم البعض، وتكفير بعضهم البعض، إلا أن إبراهيم عيسى يعتقد أن مصطلح “الفتنة الكبرى” كان تخفيفا شديدا لما جرى، ويتصور أن طه حسين كان متحفظا جدا على عكس ما يعتقد، ربما بسبب ردود أفعال مدعي التدين ضده بعد كتابه “في الشعر الجاهلي”.

ويقول معلقا “لقد كان أشبه بمحام يدافع عن أصحاب النبي الذين قاتلوا بعضهم البعض”.

وتعامل باقي جيل الرواد مع التاريخ الإسلامي في مصر، بمنطق مختلف، فبعضهم مثل عباس محمود العقاد، سعى إلى تأصيل فكرة الإنسان الأكمل من خلال العبقريات، والبعض الآخر مثل عبدالرحمن الشرقاوي حاول تثوير التاريخ.

كهوف التاريخ

مصطفى عبيد يحاور إبراهيم عيسى
مصطفى عبيد يحاور إبراهيم عيسى

تحدث إبراهيم عيسى، وعلى وجهه ابتسامة تفاؤل بغد يحكم فيه المنطق والعقل. تتحرك يداه بتلويحات دهشة من مذابح تتكرر باسم الدين عبر الزمن. تنفعل ملامحه شارحا ومندهشا من مجتمعات عربية جبلت على الطاعة ورضت بتقديس البشر، فأبت طعنا أو نقدا أو تفكيرا في مذابح القتلة الأوائل التي أودت بأرواح العشرات من الآلاف ونشرت الفزع والخراب باسم دين الله.

سألته عن الفكرة التي قادته إلى تحويل حروب الصحابة منذ عهد الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان وحتى تولي معاوية بن أبي سفيان الحكم إلى عمل روائي. وكيف واتته الشجاعة ليدخل حقل ألغام مدعي التدين ويشكك في قوالب صارمة صبوها صبا لتقديس بشر غير مقدسين تحت زعم أنهم “خير أجيال المسلمين”.

يستوي إبراهيم عيسى على مقعده، وخلفه مكتبة تثير شهية الغوص في التاريخ، حيث صُفت مجلدات البداية والنهاية لابن كثير، والكامل في التاريخ لابن الأثير، وتاريخ الطبري وغيرها من أمهات الكتب، بينما تناثرت على المكتب روايات وكتب فكرية وسياسية وسير، ليجيب مؤكدا أنه كان يبحث عن “القتلة” الأوائل مركزا على شخصية عبدالرحمن بن ملجم (قاتل علي بن أبي طالب) ومكفّره، ليفاجأ بأنه أمام مجموعات لا حصر لها من القتلة معظمهم يوصف بأنه من “السلف الصالح”.

في رواية “حروب الرحماء” ثيمات متطورة وتكنيك جديد في الكتابة. يتخذ الكاتب من الراوي العليم صوتا مراقبا لكل الشخصيات، غير أن هناك صوتا مستترا يمثل شيطانا مقترنا بكل شخصية يحادثها ويحاورها ويغوص في رأسها.

وتتناول الرواية فترة حكم علي بن أبي طالب وخروج اثنين من كبار الصحابة عليه، هما الزبير بن العوام وطلحة بن عبيدالله ومعهما السيدة عائشة يطالبونه بتسليم قتلة عثمان بن عفان؛ فضلا عن تحالف معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص، قبل أن ينشق بعض القراء عليه وبينهم عبدالرحمن بن ملجم.

رحلة شاقة

كان الجزء الأول من الثلاثية رحلة الدم، الذي حصل على جائزة الأديب المصري نجيب محفوظ لسنة 2018، فصّل قصة الثورة على عثمان وحصاره ثم قتله، بعد تكفيره.

ويقول عيسى إنه استفاد من دراساته المستفيضة للتاريخ عندما قدم ثلاثين حلقة تلفزيونية حملت عنوان رجال بعد الرسول، إلى جانب 180 حلقة في مجال التاريخ الإسلامي. ومثلت روايته دم الحسين، ومازالت أكثر الروايات التي كتبها مبيعا حتى الآن، إطلالة مبكرة على التاريخ جعلته أكثر شغفا به.

ويكشف عيسى أن كتابه “رحلة الدم” استغرق ثلاث سنوات، بينما كتب “حروب الرحماء” خلال عامين، واستفاد في هذا الجزء من البحوث والقراءات التي كانت لازمة قبل كتابة الجزء الأول.

ويوضح قائلا “قرأت كل شيء عن كتب عن الصحابة وتاريخهم، كل كتاب من أمهات الكتب: تاريخ الطبري وابن كثير وابن الأثير والمحدثين، وطبعت رسائل علمية متخصصة لم تنشر من جامعة أم القرى تدافع عن شخوص المأساة”.

ويتابع “بكيت مرارا وأنا أتخيل مشهد قتل عثمان بن عفان. حزنت على الدم المسفوك، وفزعت من استباحة الأرواح، واستعدت مشاهد تكفير كل فئة للأخرى، وتعجبت كيف استخدم الدين لأغراض الحكم والتسلط”.

ويشير عيسى إلى أن كل شخصية في الرواية كانت موجودة بالفعل في الواقع. رسم لها ظلالا من خلال الإطلال عليها من اتجاهات متباينة، ثُم حفظها في رأسه كي تطل عبر صفحات الرواية، والمدهش أنه كان يتخيل سمات بعينها لكل شخصية طبقا لما هو مكتوب عنها، وكان يتوقع انفعالها وتعاملها مع كل موقف، ويفاجأ بعد ذلك بالعثور على ما يتفق مع ما كتبه.

أحداث ومفاجآت

سعى عيسى إلى تطويع اللغة لتتناسب مع زمن الأحداث، من خلال قراءته لمحاورات وأشعار وخطب أنتجها زمان الرواية. كما قرأ كتاب نهج البلاغة المنسوب إلى علي بن أبي طالب جيدا، كي يتعرف على أسلوبه في الحديث ويرسم ما يماثله. أحب عيسى شخصيات روايته بخيرها وشرها، بخبثها وصلاحها، بصدقها وكذبها، وحفظهم كأنهم يعيشون معه، على حد قوله.

وحلل أدمغة وقلوب شخوص عديدة لا نعرف عنها الكثير، مثل نائلة زوجة عثمان بن عفان، التي ترفض الزواج من بعده، وتبعث بأصابعها إلى معاوية طالبة ثأر زوجها، وعمرو بن الحمق الذي كفّر الخليفة عثمان بن عفان وطعنه تسع طعنات قاتلة، وغيرها من الشخصيات.

كانت الرواية تثير دهشة القارئ بما تحويه من رصد وجرأة في نفي القداسة عن بشر خطائين يكذبون ويمكرون ويقتلون من أجل السلطة والنفوذ والمصالح، فإن هناك مفارقات قدرية أثارت الدهشة والحيرة داخل عقل إبراهيم عيسى عند الكتابة.

وبدا مندهشا من مشهد غزو عمرو بن العاص لمصر للمرة الثانية خلال الحرب بين علي ومعاوية، لا ليهدي شعبها إلى التوحيد كما فعل في المرة الأولى، وإنما ليستولي عليها لتصبح تابعة لمعاوية بن أبي سفيان بدلا من علي بن أبي طالب.

رفض سلفي

كما كان متوقعا، وعلى غرار أي محاولة قراءة مختلفة للتاريخ الإسلامي، وكما حدث مع أعمال أخرى لإبراهيم عيسى، تباينت ردود الأفعال على الرواية بين الرفض المسبق والتحذير من جانب السلفيين والإعجاب اللافت من جانب دعاة تجديد الخطاب الديني ومراجعة التراث، بجرأة التناول، ما انعكس بشكل كبير على مبيعات الرواية التي احتلت فور صدورها قائمة الأكثر مبيعا في مصر والدول العربية.

رغم ارتفاع ثمنها محليا (تباع بـ120 جنيها ما يعادل 7 دولارات)، ورغم كونها رواية تاريخية ومكتوبة بلغة تلائم عصرا مضى، فقد انتصر لها القراء خاصة من الشباب الذين بدأوا رحلات متابعة وبحث جديدة عن شخصيات الرواية في أمهات الكتب وعلى شبكة الإنترنت.

كيف استقبلها السلفيون؟ أسأله فيجيب قائلا “كما استقبلوا رحلة الدم وكما استقبلوا كثيرا من رواياتي وكتبي السابقة، فالأسهل لديهم التخوين، والتكفير، والتهديد، ومنهم من سعى إلى الرد الهادئ من نوع الدعاء لي بالهداية، وهناك من نصحني بقراءة كتبهم مثل ‘القواصم والصوارم’، وغيره، كأنهم يتصورون أنني أقدم على كتابة مثل هذه الرواية دون أن أقرأ كتبهم كتابا كتابا، وأبحث فكرهم ومبرراتهم واحدا تلو الآخر”.

ويضيف عيسى “بعض المتعصبين للتاريخ الإسلامي ابتكروا شخصية أسطورية وشيطانية تُدعى عبدالله بن سبأ تحرض المسلمين على بعضهم البعض، وتقتل من هؤلاء وهؤلاء حتى تستعر المعركة وحتى يستمر الاقتتال. وبعد رحلتي في أمهات الكتب أستطيع أن أقرر وأنا مرتاح الضمير أنه شخص غير موجود بالمرة، فلم يقابله أحد ولم يذكره ذاكر معاصر”.

ويخص إبراهيم عيسى “العرب” بفكرة كتاب ينوي إعداده حول كيفية كتابة تلك الثلاثية، ويقول “سأكتب يوما ما كتابا حول ما مررت به لتحويل التاريخ إلى دراما، كيف حللت نفسيا شخصيات كان البعض يتصورها مقدسة، وكيف بحثت في الدوافع، وكيف قرأت تحولاتها. وقبل كل ذلك كيف رجحت مواقف ومرويات واردة في كتب التاريخ. وكيف استبعدت غيرها”.

طقوس الكتابة

رواية "حروب الرحماء" ثيمات متطورة وتكنيك جديد في الكتابة
رواية "حروب الرحماء" ثيمات متطورة وتكنيك جديد في الكتابة

من قرأ وتابع روايات إبراهيم عيسى المبكرة يشعر بالفارق في اللغة، والبناء المحكم للشخصيات، ويضع أصابعه على مقدار التطور. في عام 1992 أصدر روايته “العراة” التي صادرها الأزهر، ثُم في العام نفسه أصدر رواية “دم الحسين” وأصدر بعد ذلك رواية “مريم.. التجلي الأخير” لتتابع رواياته “دم على نهد” و“مقتل الرجل الكبير” و“أشباح وطنية” ثُم “مولانا”.

يعترف عيسى بعشقه للتجارب الأولى، لكنه يوافق المحاور بتطور الكتابة لديه، ويؤكد أن الروائي يصبح روائيا بعد الأربعين، وتنضج تجربته وتسكنه رغبة في تأمل الحياة وتدبر تصاريف القدر. يكتب إبراهيم عيسى دون طقوس خاصة. يكتب على الكمبيوتر الشخصي في غرفة المكتب التي استضافتنا. ليس لديه وقت محدد للكتابة، لكن بحكم الانشغال العملي فإن أفضل الأيام التي يكتب فيها هي الجمعة والسبت.

يضع لنفسه جدولا زمنيا، ويرسم كل شخصية على حدة ويشرع في العمل مستهدفا خمسة عشر ألف كلمة كل شهر. لا يستيقظ إبراهيم عيسى مبكرا للكتابة أو غيرها، ويقول بظرفه المعتاد “لا أستيقظ مبكرا، إلا لو كان لدي موعد في المحكمة”، فعلى مدى ثلاثين عاما يعمل بالصحافة والإعلام وينشغل بالأدب والتاريخ، سيق الرجل إلى المحاكمة عشرات المرات بتهم متنوعة، منها إهانة الرئيس، وإثارة الرأي العام، وإزدراء الأديان.

بدأ الرجل حياته المهنية بمجلة روزاليوسف، وتسببت كتاباته في وضعه على قوائم استهداف تنظيمات إسلامية راديكالية، ما دفع الدولة إلى تعيين حراسة أمنية له. وأسس عام 1995 جريدة “الدستور” لتحدث انقلابا في الوسط الصحافي المصري، قبل أن تغلقها الحكومة بعد عامين، ثُم أعاد إصدارها مرة أخرى سنة 2007 قبل أن يشتريها أحد رجال الأعمال ويقيله.

وفي 2008 نال عيسى، عندما كان رئيس تحرير صحيفة الدستور، جائزة جبران تويني لعام 2008، والتي يمنحها سنويا الاتحاد العالمي للصحف تكريما لرئيس تحرير أو ناشر صحافي في المنطقة العربية. اختارته رابطة الصحافة البريطانية عام 2011 كصحافي العام، وهي تلك الجائزة التي يقول لـ”العرب” عنها “إنه يعتز بها كثيرا رغم عدم اهتمام أي جهة محلية بكونه المصري الوحيد الحاصل عليها”.

يقول الشاعر محمد الماغوط “أنا سأكتب، سأغني، سأجن. لكنني لن أطلق الرصاص”. ويقول عيسى مودعا “سأكتب وكفى”.

6