أين اختفت الشواطئ التونسية: الرمال تتقلص والصخور تظهر مكانها

تآكل السواحل التونسية بات من الخطورة بحيث يستدعي القلق والمخاوف لدى الكثيرين، حيث تمتد هذه السواحل لمسافة 1400 كيلومتر تقريبًا وسط ارتفاع منسوب مياه البحر. وآثار تغير المناخ على الساحل التونسي قد تكلف الكثير ليس على السياح فقط، وإنما على الملايين من التونسيين.
قابس (تونس) - تضمّ مدينة غنوش الساحلية التونسية حوالي 600 صياد. لكن صباح يوم أربعاء من الشهر الماضي لم يشاهد أي قارب في الأفق.
ويقول الصيادون إن تغير المناخ يؤدي إلى ارتفاع مستمر في مستويات سطح البحر، مما يهدد الشواطئ. ويصبح الخروج إلى البحر أكثر صعوبة، حيث تتسبب الصخور في إتلاف قواربهم وشبكات الصيد.
وقال محمد علي (39 عاما) وهو صياد في البلدة الواقعة على بعد 400 كيلومتر جنوبي تونس العاصمة إن “رمال الشاطئ تقلصت بشكل كبير وظهرت الصخور مكانها”.
وأضاف الصياد، وهو أب لأربعة أطفال “تضرر قاربي عدة مرات. أصبح النزول إلى البحر والصيد صعبا”. وقال علي إنه كان يكسب حوالي 300 دولار شهريا من صيد الأسماك، لكن دخله أصبح أقل بنسبة 20 في المئة عما كان عليه في السنوات السابقة قبل أن يصبح تآكل السواحل شاغلا رئيسيا.
أكثر من 85 في المئة من سكان تونس يعيشون على الساحل، مقارنة بمتوسط عالمي يبلغ حوالي 40 في المئة
وقال ساسي علية رئيس نقابة المصائد في الميناء الجنوبي للبلدة، إن نصف الصيادين المحليين وحوالي 80 في المئة من الشركات (بما في ذلك المطاعم والمقاهي) قد تضررت على طول المناطق الأكثر تآكلا على الساحل.
وأضاف “تسبب ارتفاع منسوب مياه البحر واختفاء الرمال في إلحاق أضرار جسيمة بالشركات على الشاطئ”، حيث شهدت السياحة انخفاضا كبيرا على مدى العقد الماضي.
وحذر باحثون من أن مزيجا من ارتفاع منسوب البحار وتدمير الدفاعات الطبيعية مثل الكثبان الرملية وبناء السدود التي تخزن الرمال بدلا من السماح لها بالتدفق إلى الساحل، يتسبب في اختفاء الشواطئ التونسية تدريجيا.
ووجد البنك الدولي في دراسة أجريت سنة 2021 أن منطقة المغرب العربي (المكونة من المغرب وتونس والجزائر وليبيا وموريتانيا) هي أكثر تأثرا بالتآكل الساحلي من أي منطقة خارج جنوب آسيا. ووجد أن تونس شهدت أعلى معدلات تآكل في المنطقة المغاربية في العقود الثلاثة الماضية، حيث بلغ متوسّطها حوالي 70 سم في السنة.
ويقول الخبراء إن تسارع تغير المناخ أدى أيضا إلى ارتفاع درجات الحرارة وتفاقم الجفاف وانخفاض هطول الأمطار على تونس، وهو ما يضر بقطاع الصيد والزراعة والسياحة.
وقال باحثون في المعهد الوطني لعلوم وتكنولوجيا البحار إن الحكومة استجابت للمخاوف المتزايدة المتعلقة بالأمن المائي من خلال بناء المزيد من السدود لتوفير المياه العذبة. لكن ذلك منع الرمال من الانتقال من الداخل إلى الساحل، مما أدى إلى تفاقم تآكل السواحل.
وقالت الباحثة في المعهد عُلا عمروني إن تآكل السواحل يزداد سوءا بسبب التدخل البشري. وأضافت أن “الناس والمباني يزدحمون عبر السواحل بشكل متزايد بما يقلّص الحماية الطبيعية ضد التعرية مثل الكثبان الرملية والأراضي الرطبة”.
ويعيش ما لا يقل عن 85 في المئة من سكان تونس البالغ عددهم أكثر من 12 مليون نسمة على الساحل، مقارنة بمتوسط عالمي يبلغ حوالي 40 في المئة، وفقا للبنك الدولي.
وتتحرك المياه المالحة إلى الداخل مع تفاقم تآكل السواحل مما يؤدي إلى تدمير المناطق الصالحة للزراعة في ما يشكّل “ضربة كبيرة للقطاع”، حسب جيل ماهي، وهو مدير الأبحاث في مختبر العلوم المائية في جامعة مونبلييه الفرنسية والذي يعمل حاليا في المعهد الدولي للعلوم والتكنولوجيا في تونس.
وتساءل “ماذا عن كل البنى التحتية على طول الساحل؟ الموانئ؟ محطات الطاقة النووية؟”. وتعرض ما يقرب من نصف شواطئ تونس البالغ طولها 670 كيلومترا لتهديدات شديدة بسبب تآكل السواحل اعتبارا من 2020، وهو رقم تضاعف أكثر من ثلاث مرات منذ 1995، وفقا لوكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي.
وعملت الوكالة على بناء جدران لحماية الساحل من الأمواج وتأمين الرمال من مقلع قريب لإعادة بناء الشواطئ. وبلغت حماية أفضلَ لمسافة 32 كيلومترا من الساحل في 2020 (أحدث البيانات المتاحة).
وتبلغ الكلفة السنوية التقديرية للتعرية الساحلية من حيث الأضرار التي لحقت بالأراضي والمباني القريبة من الشاطئ ما يعادل 2.8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في تونس، مقابل 0.7 في المئة في ليبيا، و0.4 في المئة في المغرب، و0.2 في المئة في الجزائر، حسب دراسة البنك الدولي. لكنه حدد أن الكلفة الحقيقية في تونس من المرجح أن تكون أعلى لأن الدراسة لم تتضمن عوامل أخرى مثل عائدات السياحة المفقودة.
وكتب ماهي في مقال نشر سنة 2021 أن تآكل الشواطئ يمثل “قنبلة اجتماعية واقتصادية حقيقية”.
وفي جزيرة جربة الواقعة على بعد 110 كيلومترات جنوب غنوش، قال الصياد الأخضر أحمد البالغ من العمر 52 عاما إن دخله من الصيد انخفض إلى النصف خلال العقد الماضي (إلى 250 دولارا في الشهر) بسبب تقلص الشواطئ. وأشار إلى أن “الصخور تحيط الآن بنحو 18 كيلومترا من ساحل الجزيرة وتدمر سبل عيش مئات من الصيادين هناك”، مضيفا أن وجود العديد من المصانع الكيميائية تسبب أيضا في تلوث البحر.
تركت ثلاث سنوات من الجفاف العديد من سدود البلاد البالغ عددها 37 مستنفدة أو فارغة، ودفعت الحكومة إلى زيادة أسعار مياه الصنبور للمنازل والشركات.
وقالت الدكتورة والباحثة راضية سمين من مرصد المياه التونسي الشهر الماضي إن “الوقت حان لتعلن السلطات حالة الطوارئ المائية” محذرة من خطر الوصول إلى “حالة العطش”.
وتستثمر الدولة في بناء سدود إضافية لمحاولة تخزين أكبر قدر ممكن من المياه العذبة. وقال وزير الاقتصاد سمير سعيد الشهر الماضي إن تونس تعد دراسات لسدود جديدة ومحطات لتحلية مياه البحر من أجل التنمية بحلول 2025. لكن الباحثين يقولون إن السدود غالبا ما تحبس الرمال والرواسب التي كانت ستتدفق إلى البحر، وبالتالي تغذي تآكل السواحل.
وقال ماهي إن 80 في المئة من الرمال الساحلية في تونس تأتي من الداخل، وإن “السدود هي التأثير الرئيسي الذي يزيد من تعرض السواحل للتعرية”.
وقال الباحثان ماهي وعمروني إنهما يعملان على مشاريع في شراكات مع مؤسسات دولية مثل البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي للحد من التآكل من خلال الحلول القائمة على الطبيعة.
على سبيل المثال، شملت إحدى المبادرات التي نفذها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بالاشتراك مع وكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي تركيب 0.9 كيلومتر من الأسوار الرملية و1.1 كيلومتر من سعف النخيل المربوطة بالأرض للحد من تأثير الأمواج الضخمة على أحد الشواطئ في جربة.
وقالت عمروني “نريد أن تلتئم الشواطئ من تلقاء نفسها من خلال بناء السدود وأسوار الكثبان الرملية وحواجز الأمواج باستخدام مواد طبيعية من النظام البيئي. يمكننا بهذه الطريقة أن نتمتع بظروف شاطئية أفضل على المدى الطويل”.