أوكرانيون يصرون على إنقاذ كنوزهم التاريخية بأي ثمن

زابوريجيا (أوكرانيا)- يسعى القائمون على المتاحف ومواقع الإرث الثقافي في جنوب أوكرانيا إلى إنقاذ هذه الكنوز التاريخية من خطر العمليات العسكرية الروسية بأي ثمن، ويعرّضون أنفسهم أحيانا للخطر.
ففي مطلع مارس الماضي عندما بدا أن تقدم الجيش الروسي في منطقة زابوريجيا سيحصل حتما، بادرت ناتاليا تشيرغويك إلى تحميل شاحنتها بقطع فنية يصل وزنها إلى نحو طنّ، بينها لوحات وأسلحة تراثية وخزف من القرن السابع عشر، وتوجهت بها غربا.
وتروي المرأة الخمسينية وهي مفوضة المعارض في متحف خورتيتسيا “اجتزنا مسافة ألف كيلومتر في خمسة أيام. كانت رحلة مروعة، وكانت الطائرات تمرّ فوقنا عندما كنا على الطريق من دون أن نعرف ما إذا كانت أوكرانية”.
◙ جزيرة خورتيتسيا تشكل بأكملها متحفا نظرا إلى أهميتها التاريخية إذ احتلها القوزاق الأوكرانيون منذ القرن السادس عشر
وتشير إلى أن “الجانب الأكثر صعوبة كان إقناع عناصر الحواجز العسكرية بعدم تفتيش المجموعات جزيرة خورتيتسيا الواقعة على نهر دنيبرو بأكملها متحفا نظرا إلى أهميتها التاريخية، إذ احتلها القوزاق الأوكرانيون منذ القرن السادس عشر وبالسماح للشاحنة بالمرور بأسرع ما يمكن”.
وعلى هذه الجزيرة، أنشأ القوزاق الزابوروغ أول “سيتش”، وهو نظام سياسي يقوم على الديمقراطية المباشرة. وهي تاليا بمثابة “موقع مقدس بالنسبة إلى تاريخ أوكرانيا”، على ما يصفه ماكسيم أوستابينكو (51 عاما)، مدير المتحف الذي تم إنشاؤه في المكان، وهو موقع ثقافي أوكراني بالغ الأهمية، من أبرز ما يحويه العشرات من القطع التي عُثر عليها خلال الحفريات الأثرية.
والتحق أوستابينكو المتحدر من هذه المنطقة بالجيش الأوكراني في بداية الغزو الروسي كمعظم زملائه، لكنّ انشغالهم بالقتال لم يجعلهم يهملون متحفهم.
ويقول أوستابينكو “في الواقع، وضعنا خطة إخلاء عام 2014، بعد ضم روسيا شبه جزيرة القرم (..)، حددنا بموجبها قائمة أولويات تشمل مئة قطعة هي الأثمن، ينبغي إخلاؤها في حال الخطر”. ويضيف “لا يمكن إعادة تكوين التراث الثقافي، لذا نحن ملزمون باتخاذ احتياطات”.

ماكسيم أوستابينكو: لا يمكن إعادة تكوين التراث الثقافي، لذا نحن ملزمون باتخاذ احتياطات
واعتبارا من 23 بفبراير 2022، أي بعد يومين من خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي بدا منه أن الغزو الروسي واقع لا محالة، شرعت فرق المتحف في تفكيك المجموعات. وعندما انطلق هجوم موسكو في اليوم التالي، بدأ هؤلاء عملية الإخلاء تحت القصف الروسي.
إلا أن الجيش الروسي أوقف تقدمه على بعد أربعين كيلومترا إلى الجنوب من زابوريجيا، ولم تصبح خورتيتسيا تحت سيطرته، مع أن ثلاثة صواريخ سقطت على الجزيرة لم تصب مباني المتحف.
واكتفت القوات الروسية في المقابل بالسيطرة على موقع “سيتس كاميانسكا” التابع له، في منطقة خيرسون جنوبا، حيث وضع أول دستور أوكراني.
ويشير أوستابينكو إلى أن “الموظفين لم يعودوا يستطيعون الوصول إلى الموقع”. ويضيف “انقطع تواصلنا مع زملائنا منذ مدة”.
وتُظهر تقديرات اليونسكو أن أضرارا لحقت بـ175 موقعا ثقافيا في أوكرانيا منذ بدء الغزو في 24 فبراير. وتعتبر وزارة الثقافة الأوكرانية أن نحو 100 متحف، وما يقرب من 17 ألف قطعة من التراث الثقافي، موجودة في الأراضي المحتلة.
وعلى بعد 60 كيلومترا من خورتيتسيا، احتل الجيش الروسي في الأيام الأولى من الغزو مدينة فاسيليفكا القريبة من خط الجبهة.
وتضم هذه المدينة قصر بوبوف، وهو مبنى ينتمي إلى فن العمارة النيوقوطية ويعود تاريخ بنائه إلى القرن التاسع عشر، أصيب بأضرار بفعل القصف والمعارك في مطلع مارس.
◙ أضرار لحقت بـ175 موقعا ثقافيا في أوكرانيا منذ بدء الغزو في 24 فبراير
وفيما قرر جزء من فريق المتحف البقاء، تحاول مديرته آنا جولوفكو (39 عاما) التي تعيش في زابوريجيا، البقاء على اتصال بزملائها.
وتلاحظ أنهم “يفعلون كل شيء للحفاظ على المباني ولكن الأمر معقد جدا. ما إن يصلحوا نافذة مثلا، حتى يدمرها قصف جديد”.
ولم يسنح لفريق المتحف وقت كافٍ لإخراج محتويات القصر الأثري من الأراضي المحتلة. وتقول غولوفكز إن عسكريين روسا حضروا في اليوم التالي لسقوط المدينة إلى الموقع بهدف نهبه.
وتشير إلى أن اثنين من زملائها سُجنا لمدة أربعة أيام في مطلع أغسطس، وخضعا للاستجواب لكي يفصحا عن مكان وجود المجموعات.
أما ناتاليا تشيرغويك، فعادت للعيش في زابوريجيا بعد رحلتها إلى الغرب، لكنها تؤكد أن مصير التراث الأوكراني، وخصوصا في المناطق المحتلة، هو بالنسبة إليها مسألة “مؤلمة ومطروحة باستمرار”. وتقول “إذا لم ننجح في إنقاذ تراثنا الثقافي، فإن انتصار أوكرانيا لن يساوي شيئا”.