أوروبا تواجه انقساما مشابها لما عاشته في الثلاثينات

إيمانويل ماكرون: عواصف فكرية تهدد استقرار بنيان الاتحاد الأوروبي وديمومته.
الجمعة 2018/11/02
إصلاح الاتحاد الأوروبي ضرورة

باريس – تواجه أوروبا حالة من التشظي والانقسام وصعود للأحزاب الشعبوية ضمن وضع شبّهه الرئيس الفرنسي، في مقابلة أجرتها معه صحيفة “ويست فرانس”، بما عاشته أوروبا في حقبة الثلاثينات، داعيا إلى “وضوح الرؤية” و”المقاومة”.

واعتبر خبراء في الشؤون الأوروبية أن المخاوف التي عبّر عنها ماكرون بشأن صعود التطرف وتفكك أوروبا، تعبّر عن أزمة حقيقة يعاني منها الاتحاد الأوروبي، كما تكشف خللا بنيويا مقلقا في البناء الأيديولوجي الغربي الذي ران بعد الحرب العالمية الثانية.

وتستبطن المقارنة التي ذهب إليها الرئيس الفرنسي مبالغة لكنها تكشف عما يمكن أن تؤول إليه الأمور إذا ما استمر مسلسل الانحدار في طبيعة الظواهر السياسية والاجتماعية، سواء من خلال تنامي الميول نحو الانفصال عن أوروبا الأم وسلوك نهج أناني كامل، أو من خلال تصاعد حدة التطرف والعنصرية التي تأخذ أشكالا خادعة ضد المهاجرين، فيما هي تعبير عن نازية جديدة تفتك بالمجتمع كما فعلت النازية القديمة في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي. وقال الرئيس الفرنسي إنه يشعر بـ”الذهول لمدى التشابه بين الوقت الذي نعيشه وزمن ما بين الحربين”.

وتعرض الاتحاد الأوروبي لزلزال مفصلي حين صوّت البريطانيون لصالح الخروج من الاتحاد على نحو رفع منسوب التشكيك في قوة المشروع الأوروبي وصلابته. وعلى الرغم من سعي الدول الأعضاء إلى منع الحالة البريطانية من أن تكون مثالا يحتذى، وعلى الرغم من وحدة الموقف الأوروبي في التشدد في بنود الاتفاق الذي يجري التفاوض بشأنه مع بريطانيا بشأن شروط “الطلاق” ومستقبل علاقة بريطانيا مع الاتحاد، إلا أن “التجربة البريطانية” هزّت أعمدة أوروبا وأضعفت مناعتها أمام الرياح الآتية من الولايات المتحدة وروسيا والصين.

ويكشف ماكرون في تصريحاته عن مكامن الخلل الذي ما برح يتحدث عنها، داعيا إلى إجراء إصلاحات داخل الاتحاد الأوروبي لمعالجة العلل ومواجهة التصدعات والعواصف الفكرية الآتية من منتصف القرن الماضي والتي تذكّر الأوروبيين بأنهم لم يتخلصوا من كارثة الحرب العالمية الثانية وأسبابها وحيثيات نشوئها.

ورأى الرئيس الفرنسي في المقابلة التي نشرتها الصحيفة على موقعها الإلكتروني أن “أوروبا منقسمة بفعل المخاوف والانغلاق القومي وتبعات الأزمة الاقتصادية، مما شهد بشكل شبه منهجي تفكك كل ما انتظمت حوله حياة أوروبا ما بعد الحرب العالمية الأولى وحتى أزمة 1929”.

تبدو تصريحات ماكرون رسالة واضحة للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، بضرورة انتهاج خطاب واضح لتأكيد الثوابت التي قام على أسسها هذا الاتحاد

وجرّ صعود دونالد ترامب في الولايات المتحدة ماء غزيرا إلى طاحونة تيارات اليمين المتطرف والأحزاب الشعبوية في أوروبا. وكانت تلك التيارات تنشط بشكل هامشي وكان مناصروها وناخبوها يتحركون بشكل حرج، وكان الناخبون يكتمون أمر خيارهم ولا يجاهرون بمنحهم أصواتا للمنحدرين من النازية والفاشية القديمة. لكن الخبراء في الشؤون السياسية الفرنسية يؤكدون أن الناخب الأوروبي بات يجاهر بمناصرة تيارات اليمين المتطرف منذ أن أصبح ترامب رئيسا للولايات المتحدة.

وشهدت أوروبا في السنوات الأخيرة تصاعدا مقلقا للتيارات الشعبوية في إيطاليا والنمسا وهنغاريا وألمانيا.. إلخ، فيما كادت زعيمة حزب الجبهة الوطنية الفرنسية اليميني المتطرف مارين لوبان أن تنتخب رئيسة للجمهورية الفرنسية قبل أن يطيح بها ماكرون من خلال قرار اليمين واليسار الجمهوري ضم أصواتهما لسدّ باب الإليزيه ضدها.

ويدق ماكرون ناقوس الخطر ويدعو إلى خطاب جديد يواجه أي لبس في التمسّك بالقيم الحديثة التي بنت أوروبا وأنهت مسلسل حروب لا تنتهي داخلها.

ويأتي حديث ماكرون فيما تستعد فرنسا لإحياء الذكرى المئوية لنهاية الحرب العالمية الأولى بزيارة مواقع المعارك في شمال فرنسا وشرقها على مدى أسبوع اعتبارا من الأحد، قبل إقامة مراسم كبرى في ذكرى توقيع الهدنة في 11 نوفمبر 1918 عند قوس النصر في باريس بحضور مئة قيادي من العالم بأسره.

يرصد مراقبون علاقة مقلقة بين ظواهر التفكك وتنامي التطرف وبين انكشاف أوروبا أمام دول كبرى تتقدم باتجاه القارة العجوز مهددة استقرار البنيان الأوروبي وديمومته.

وقال ماكرون إن أوروبا اليوم “تواجه خطران، خطر أن تتفكك بسبب آفة القومية، وخطر أن تثير قوى خارجية البلبلة فيها وأن تخسر بالتالي سيادتها. أي أن يتوقف أمنها على الخيارات الأميركية وتبدّلاتها، وأن يكون للصين حضور متزايد في البنى التحتية الأساسية، وأن تميل روسيا أحيانا إلى التدخل، وأن تتخطى المصالح المالية ومصالح الأسواق الكبرى أحيانا مكانة الدول”.

وتبدو تصريحات ماكرون رسالة واضحة للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، من حكومات وأحزاب ونخب سياسية، بضرورة انتهاج خطاب واضح لتأكيد الثوابت التي قام على أسسها هذا الاتحاد، لكنها في الوقت عينه تشكل اعترافا بمدى التصدع الذي أصاب أوروبا.

ومازلت وعود الإصلاح التي لطالما نودي بها في بروكسل دون مستوى ما يجب إنجازه لتحصين المشروع الأوروبي مما قد يفتك به من الداخل كما مما قد يطرأ عليه من ضغوط تتقاطع من الشرق والغرب لمحاصرته وإضعاف حضوره ودوره ومبرّر وجوده في العالم.

6