أوروبا تحتفي بأثر المشرق العثماني في فنون عصر النهضة

لندن- علامات التأثير والتأثر بين الدول والحضارات المختلفة لا تخضع لمقاييس الزمان والمكان، كما أنها لا تتسم بالجمود والثبات وتتراوح بين الإعجاب أو النفور وفقا للعلاقات بين الدول وموازين القوى، ورغم التنافس السياسي والاقتصادي والتوسعي بين الغرب، بمختلف دوله وممالكه، والدولة العثمانية إلا أن ذلك لم يحل دون إعجاب وتأثر رواد عصر النهضة الغربيين من فنانين وعلماء بالحضارة العثمانية، وترجمة ذلك في ما تركوه من أعمال فنية تعود إلى قرون لتخلد هذا الانبهار بالعثمانيين وسلطانهم.
الإمبراطورية العثمانية سيطرت لعقود على أغلب دول العالم وحين بلغت أوج قوتها ازدهرت فيها العلوم والفنون بأنواعها، أبهرت كذلك أعداءها بهذا الازدهار الذين رغم خوفهم من سطوتها نظروا إليها بإعجاب واندهاش. وخلال رحلات الغرب الدبلوماسية الرسمية أو التجارية صاحبهم الفنانون والكتاب الذين ترجموا إعجابهم بالفنون العثمانية وبسحر الشرق في لوحاتهم ومدوناتهم عن رحلاتهم.
ونجح المبدعون والكتاب في تحويل الخوف الغربي من العثمانيين إلى إعجاب واحترام، وبذلك حرروا العقل الغربي من أسر مفاهيم الخوف والرعب من الشرق ومن الآخر المختلف في عاداته وتقاليده وديانته ونشأت رغبة في الاستكشاف والتواصل والتبادل والتعايش.
هذا التحول خلدته معروضات مركز “بوزار” للفنون الجميلة بالعاصمة البلجيكية بروكسل تحت عنوان “عالم السلطان: المشرق العثماني في فنون عصر النهضة”، وهو يترجم التلاقي بين الإمبراطورية العثمانية وحقبة عصر النهضة الأوروبية.
واحتفى فنانو عصر النهضة، في أعمالهم بعديد القطع الفنية العثمانية ومنها السجاجيد صغيرة الحجم، التي تحتوي على طابع زخرفي وجمالي يصور لوحات فنية في أغلب الأحيان. ومن بين هذه السجاجيد البساط المزخرف الشهير الذي ظهرت فيه لوحة “السفيران”، التي رسمها هولبين عام 1533. وهي في شكل بساط شرقي من الصوف الثقيل، وقد رُسمت احتفاء بمؤتمر “سومرست هاوس” عام 1604، ولكنها أُنجِزت بعد 70 عاما من عقد المؤتمر.
فنانو عصر النهضة لعبوا دورا حاسما في التعريف بالحضارة العثمانية من خلال ما دونوه عن رحلاتهم وما ألفوه من كتب
وفي قراءة تاريخية نذكر أنه في عام 1453، سقطت مدينة القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية -في ذلك التاريخ- على يد العثمانيين وهو ما أدى إلى نهاية الإمبراطورية البيزنطية ومثل نقطة تحول في تاريخ المنطقة.
ورغم الصراعات العسكرية والنزاعات المتعددة بين الإمبراطورية العثمانية والغرب نشأ انجذاب وإعجاب بين الطرفين تمحور حول حب الاكتشاف والإطلاع على ثقافة الطرف الآخر خاصة في الفترة بين (1453-1918).
وخلال القرن السادس عشر باتت الرحلات التجارية والدبلوماسية أمرا معهودا بين الطرفين وكان الفنانون يرافقون الوفود الرسمية في رحلاتهم إلى منطقة البوسفور أو مضيق إسطنبول ليطلعوا عن قرب على عادات وتقاليد الإمبراطورية العثمانية وفنونها.
ولعب هؤلاء دورا حاسما في التعريف بالحضارة العثمانية وفي تكوين صورة لدى الغرب على العثمانيين، وذلك من خلال ما دونوه عن رحلاتهم وما ألفوه من كتب تناولت العادات العثمانية والأزياء ومن خلال ما صورته أعمالهم الفنية من مشاهد عثمانية.
|
ولطالما ارتبطت نظرة الغرب لتركيا بانعدام الثقة والخوف والأحكام المسبقة، لكن في الماضي أعجب الغرب بالقوة العسكرية العثمانية وخاصة بانضباط العسكريين وبالثقافة والعلوم العثمانية وبروعة فنون ومعمار الشرق المجسمة في محكمة السلاطين والتي أثارت أعجاب وخيال الغربيين.
وفي عرض “إمبراطورية السلطان” في قصر الفنون الجميلة في بروكسل تم تسليط الضوء على العلاقات الثقافية بين تركيا والأوروبيين والأثر العثماني في فنون عصر النهضة الأوروبي. وهو ما يبرز سعيا واضحا من قبل المنظمين لكسر الصورة النمطية السائدة عن العلاقة الثقافية بين تركيا والغرب. ويتواصل معرض السلطان في قصر الفنون الجميلة في بروكسل حتى نهاية مايو القادم ويقدم لزواره مئة وسين عملا فنيا أوروبيا لكبار رسامي عصر النهضة، منهم جنتيلي بلليني الإيطالي، والبرخت ديورر الألماني وهانس مملينغ الفلماني.
وأثث المعرض بلوحات زيتية كثيرة للسلاطين ملأت جدران القاعات، ومن أبرز المعروضات لوحة زيتية للفنان الإيطالي الشهير جنتيلي بلليني تصور السلطان محمد الفاتح، الذي عرف في أوروبا خلال عصر النهضة باسم “محمد الثاني”، وهو سابع سلاطين الدولة العثمانية وسلالة آل عثمان، ويلقب، إلى جانب “الفاتح”، بالقيصر بعد فتحه القسطنطينية وبحسب المؤرخين فقد حكم حوالي ثلاثين عاما عرفت توسعا كبيرا للخلافة الإسلامية.
وجل المواد المعروضة في معرض بروكسل تم نقلها من متاحف عالمية، منها المتحف البريطاني في لندن ومتحف متروبوليتان للفنون في نيويورك. ويقول ميشال دزيولسكي، أحد القيمين على المعرض في بروكسل إن التأثير الثقافي العثماني كان قويا جدا في بلدان أوروبا الوسطى، ويرى أن أكبر الأدلة على ذلك صورة أو بورتريه ماتياس كورفينوس ملك بوهيميا (1443-1490) وهو يرتدي الزي العثماني، المعروف بالقفطان.
ويسعى معرض السلطان من خلال ما يقدمه إلى استنطاق الأثر العثماني في الفنون الغربية التي تحاكي قوة الجذب التي مارستها ثقافة الإمبراطورية العثمانية على فناني عصر النهضة الغربية، من خلال 160 عملا فنيا وقطعا ثمينة مثل الرسوم والمطبوعات، والأقمشة الملكية، والأدوات العلمية والعملات والمخطوطات الجميلة والسجاد الفاخر والدروع الشرقية التي تعود إلى الفترة الممتدة بين 1420 و1620. كما يولي المعرض اهتماما خاصا بفنون المجر وبولندا البلدين اللذين كانا في احتكاك مباشر بالعثمانيين وبثقافتهم.
ويعد العرض حلقة من سلسلة عروض دولية تحمل عنوان “العثمانيين والأوروبيين 5 قرون من العلاقات الثقافية” ويدور هذا المشروع الثقافي الدولي حول محور العلاقات الثقافية في الماضي واليوم بين أوروبا والإمبراطورية العثمانية/تركيا.