"أنا قادم أيها الضوء" رحلة كاتب مصري في مواجهة السرطان

كتاب عن قصة محمد أبوالغيط القصيرة والملهمة.
الجمعة 2023/01/06
كاتب خلد اسمه بكتاب يتيم

كانت تجربة الصحافي المصري محمد أبوالغيط قصيرة زمنيا لكنها ثرية، فقد خط اسمه ضمن أهم الصحافيين المصريين بكتاباته المختلفة التي تكللت بصدور كتابه الأول والأخير الذي يسرد فيه معاناته مع مرض السرطان، المرض الذي فتك به قبل أن يرى كتابه النور.

القاهرة – خاض الصحافي المصري محمد أبوالغيط معارك ضارية في مجال الصحافة الاستقصائية اقتنص بعدها جوائز دولية مهمة لكن معركته الأخيرة والمريرة مع مرض السرطان لم يستطع تجاوزها فقرر أن يوثقها في كتابه الأول والأخير “أنا قادم أيها الضوء” الذي صدر بالتزامن مع وفاته.

توفي أبوالغيط في الخامس من ديسمبر 2022 عن 34 عاما بعد صراع مع السرطان تاركا زوجة وابنا وحيدا، والكتاب الصادر عن دار الشروق بالقاهرة، سطّر فيه رحلته مع المرض الخبيث بأسلوب أدبي رقيق ليضيف إلى المكتبة العربية إصدارا جديدا جدير بأن يصنف ضمن “أدب المغادرين”.

الكتاب يسرد رحلة مؤلفه ومحاولاته المضنية للتشبث بالحياة في مواجهة مرض يأبى أن يغادر جسمه
الكتاب يسرد رحلة مؤلفه ومحاولاته المضنية للتشبث بالحياة في مواجهة مرض يأبى أن يغادر جسمه

وكان عدد من الأدباء والشعراء قد سبقوه في تدوين سيرهم الذاتية أو خواطرهم بعد علمهم بإصابتهم بالسرطان أمثال الشاعر الفلسطيني حسين البرغوثي في “سأكون بين اللوز” عام 2004، والناقد المصري سيد البحراوي في “في مديح الألم” عام 2016، والروائية المصرية رضوى عاشور في “أثقل من رضوى” عام 2013، والبرلمانية المصرية أنيسة حسونة في “بدون سابق إنذار” عام 2017، وغيرهم العشرات.

أما أبوالغيط الذي تخرج في كلية الطب قبل أن يتحول إلى العمل بالصحافة فقال عن تجربته “أكتب لأن الكتابة هي أثري في الحياة، هي أهراماتي الخاصة، فإلى متى ستبقى منتصبة بعدي؟ الكتابة هي محاولتي لمغالبة الزمن والموت بأن يبقى اسمي أطول من عدد سنوات حياتي التافهة مقارنة بعمر الكون الشاسع المقدر حاليا بـ14 مليار سنة. أعرف أني مهما عشت فإن حياتي، والعالم كله، كذرة غبار لا تُرى على شاطئ ذلك الكون الفسيح. لكن الكتابة قد تجعل ذرتي ألمع بين باقي الذرات على الأقل.. هذه صيحتي: محمد أبوالغيط مرَّ من هنا!”.

يسرد الكتاب في 315 صفحة رحلة مؤلفه منذ تشخيص إصابته بالسرطان منتصف عام 2021 ثم خضوعه لجراحة كبيرة جرى خلالها استئصال المعدة بالكامل والطحال وجزء من البنكرياس ومحاولاته المضنية للتشبث بالحياة في مواجهة مرض يأبى أن يغادر جسمه رغم تلقي أنواع وأشكال تقليدية وأخرى تجريبية من العلاجات.

الكتاب يفرط في وصف تفاصيل طبية وتفيض سطوره بمشاعر إنسانية نبيلة من أبوالغيط تجاه العائلة والزوجة والابن

يتنفس القارئ شهيقا وزفيرا مع المؤلف كأنه يلازمه على سرير المرض، تنفرج أساريره كلما أحرز تقدما في علاج جديد، ويغتم مع كل انتكاسة تعيده خطوات إلى الوراء، لتتبدد المقولة الأشهر التي يحتمي خلفها معظم البشر عند مواجهة ابتلاء كبير مثل الذي أصاب أبوالغيط  “يحدث هذا للآخرين فقط”.

وبقدر ما يفرط الكتاب في وصف تفاصيل طبية دقيقة وأسماء عقاقير ومستشفيات وأطباء بحكم مهنة مؤلفه الذي اعتاد التوثيق والتدقيق، تفيض سطوره بمشاعر إنسانية نبيلة تجاه العائلة والزوجة والابن (ثمانية أعوام) الذي كان آخر من يعلم أنه سيكتسب قريبا صفة “يتيم”.

يقول أبوالغيط في فصل من الكتاب بعنوان “شمس وقمر في مهمة إنقاذ” عن زيارة والديه له في المستشفى “حين شاهداني كان وزني قد بلغ ذروة انخفاضه. عظام جمجمتي بارزة بشكل غير مسبوق. لم أشاهد سابقا ذلك الانبعاج على جانبي رأسي. جلد على عظم حرفيا. وجهي شاحب، أمضي أغلب الوقت نائما أو بنصف وعي بسبب كميات هائلة من المسكّنات.. أكثر ما آلمني هو عجزي عن تقبيل رأسيهما وأياديهما؛ بسبب وجود أنبوب عبر أنفي وظيفته نزح إفرازات الأمعاء”.

أما زوجته إسراء فخصص لها فصلا بعنوان “وردتي البيضاء الخارقة” حكى فيه عن بداية تعارفهما وكيفية تأسيسهما لحياة مشتركة يتقاسمان فيها المسؤوليات والأعباء وانتقالهما للعيش في لندن، كما لم ينس إدراج أغنيتهما المفضلة التي اعتادا غناءها سويا.

يبدو المرض والذكريات الشخصية هما القوسان الجامعان لمعظم محتوى الكتاب وتتسلل من بين السطور خلسة تأملات في السياسة والدين

وبينما يبدو المرض والذكريات الشخصية هما القوسان الجامعان لمعظم محتوى الكتاب تتسلل من بين السطور خلسة تأملات في السياسة والدين، تساؤلات حائرة عن أصل الوجود ومعناه، نبع صاف من الأشعار العذبة للمتنبي وابن ميادة ومحمود درويش، ونصائح مخلصة في فن الحياة يسديها شاب شجاع بلغ حافة الموت وأبى إلا أن يقاتل حتى النفس الأخير.

قال عنه الصحافي عصام الزيات “في الكتاب يواسي أبوالغيط نفسه ويواسينا معه، فيخبرنا أن حياته والعالم كله كذرة غبار لا تُرى على شاطئ الكون الفسيح. لكن الكتابة هي أداته كي تكون ذرتّه ألمع من باقي الذرات. إنها صيحته كي يعلم الكون أن محمد أبوالغيط مرّ من هنا. ونحن إذ نكتب عنه لا نُعرّف القارئ بشخص مجهول، ولا نُعدد إنجازات أو نكتب رثاء، بل نلقي شعاعًا بسيطًا على الذرّة التي خلّفها أبوالغيط علّنا نسهم في لمعانها أكثر، ونضع وردة بيضاء على الهرم الذي بناه علّه يتحول إلى منارة تهدي الحائرين في تيه الواقع، وترشد الكُتّاب إلى النموذج الذي يكون عليه الكاتب”.

تطوى الصفحات ومعها حياة محمد أبوالغيط لكن رحلته القصيرة تبقى ملهمة لكل من يقرأ الكتاب وكأن ما أراده من البداية قد تحقق بأن يبقى ذرة لامعة على شاطئ الكون الفسيح.

14