أنامل صياغة الفضّة في المغرب تقاوم الركود

النسوة بتزنيت يبدعن في صياغة الفضة ويتحدين الإكراهات بتشكيل أنواع الحليّ مع المحافظة في الوقت ذاته على عراقة وأصالة الطابع المغربي الأمازيغي.
الثلاثاء 2021/05/11
رموز التراث والثقافة

تزنيت (المغرب)- تفننت أنامل الصائغة التقليدية بتزنيت في صياغة الفضة، المعروفة عند المغاربة “بالنقرة”، وفق منهجية تقليدية توارثتها عن الأجداد، إذ لم تثنها جائحة كورونا عن مواصلة الإبداع في صياغة أجود المنتجات.

فمدينة تزنيت العريقة، الواقعة حوالي 90 كلم جنوب أكادير، على الطريق المؤدية إلى مدينة كلميم باب الصحراء، اشتهرت على مستوى المغرب بصياغة الحليّ الفضيّة بمختلف أشكالها وتجلياتها الثقافية العميقة، لتنجب أنامل نسائية قادرة على تطويع هذا المعدن الثمين إلى منتجات فنية مميزة.

وازداد الإقبال على الحليّ الفضيّة بعد أن هجرت الشابات الحليّ الذهبيّة، مما يؤمن لهن الظهور بمظهر جميل وبتكلفة أقلّ، بينما لا تستطيع المرأة التي تشتري حليّا من الذهب والمعادن النفيسة استعمالها دوما، بسبب تغير الموضة.

الصانع التقليدي المغربي يتأثر ببيئته على المستوى المعماري والطبيعي ويستقي منها الزخارف والرموز التي يزيّن بها الحليّ

وتحكي الشابة صفيّة قصتها مع الحليّ الفضيّة قائلة، إنها كانت تتذمر في صباها من ارتداء هذه الحليّ بسبب وزنها الثقيل، لكن نظرتها اليوم تغيرت، إذ أدركت قيمتها المعنوية والوجدانية، فهي تمثل لغة مشتركة تجمعها بمن ينتمون إلى نفس ثقافتها، وبها يخاطبون العالم من حولهم.

وعندما تضع المرأة المغربية هذه الحليّ، فهي لا تضعها للزينة فقط، بل تفعل ذلك للتعبير عن ثقافتها ووفاء لذاكرة الأمهات والجدات.

ويرتدي المغاربة حليّا من الفضة لأسباب أخرى غير الزينة حيث يسود الاعتقاد بأنها بطريقة أو بأخرى سوف تحمي من يرتديها، بل وستجلب الحظ السعيد والفأل الحسن، كما تساعد على علاج أمراض الروماتيزم والأعصاب وتطرد الجن.

ورغم الظرفية الصحية الصعبة التي يشهدها العالم، ومن بينه المغرب، بسبب تفشي جائحة كورونا، إضافة إلى تطوّر في صياغة الفضة، فإن أنامل النسوة بتزنيت لا تزال تبدع، متحدية الإكراهات، في تشكيل أنواع الحليّ من “خواتم، وأقراط وقلائد وأساوروغيرها”، محافظة في الوقت ذاته على عراقة وأصالة الحليّ المغربية الأمازيغية.

واختارت الشابة ليلى الأبيض مهنة صياغة الفضة بعد أن دخلت قسم الدراسات العربية في الجامعة، أن تلتحق بالمعهد المتخصص في التكنولوجيا التطبيقية، لتدرس في قسم “الحليّ الفضيّة”، وتتخرج منه عام 2012.

تقول “كبرت مع هذه الحرفة لأن أبي وأعمامي وقبلهم أجدادي، كانوا ولا يزالون يحترفونها، ورغم أنني فتحت عينيّ عليها، إلا أنني اخترت أن أدرس وأصقل معرفتي من خلال الدراسة  والتخصص في شعبة الحليّ الفضيّة”.

وتعد “الخلالة” أشهر الحليّ الأمازيغية على الإطلاق، وهي عبارة عن مشبك فضيّ مثلث الشكل تستعين به المرأة الأمازيغية، كي تثبت ثوبها على صدرها، وقد صارت أيقونة الثقافة المغربية أخيرا.

ويقول الباحث في التراث المغربي عبدالسلام أمارير، “إن هذا الشكل المسنن يميز معمار المنطقة”، ولذلك يخلص الباحث إلى أن الصانع التقليدي المغربي يتأثر ببيئته على المستوى المعماري والطبيعي ويستقي منها الزخارف والرموز التي يزين بها الحلي.

التميز الذي تعرفه صياغة الفضة بتزنيت يرجع إلى عدة عوامل من بينها عراقة هذه الحرفة بالمنطقة وتواجد اليهود المغاربة من أصول أمازيغية الذين أتقنوا هذه الحرفة وعلّموها للأبناء والأحفاد من المسلمين واليهود

وأكدت أمينة اخربوش وهي نموذج للمرأة التي أبدعت في صياغة الفضة بتزنيت، أنها ورثت هذه الحرفة عن الآباء والأجداد الذين اشتغلوا طوال سنين على تشكيل هذا المعدن، مشيرة إلى أنها عملت على تطوير حرفتها ضمن قالب محلي يلائم الأذواق.

وأضافت، في حديث لوكالة المغرب العربي للأنباء، أنها آثرت البقاء في هذه الحرفة حتى بعد زواجها، مشيرة إلى أنها انخرطت في تأسيس “تعاونية تيفلوت نقورت”، وهي تعاونية متخصصة في صياغة الحليّ الفضيّة التقليدية.

وتستعمل الفضة كذلك في صناعة الأواني وديكورات المنزل، حيث تُطلى هذه المصنوعات بماء الفضة، وتشكل أباريق الشاي والقهوة أكثر الأواني التي يحرص المغاربة على اقتنائها وتزيين البيت بها، إضافة إلى الصحون وصناديق حفظ المجوهرات، ويختلف سعرها بحسب جودة صنعها ونوع الفضة المستعملة ومدى نقاوتها.

واستحضرت أمينة البعد الجمالي وأدوات الزينة، التي ميزت الثقافة المحلية، والتي لا تزال تجود بها أنامل تلك النسوة بالتعاونية التي انخرطت في تأسيسها، مثل “إسرسن” (قلادة الرأس)، و”تيزرزيت” (الرمز الأمازيغي المحلي) و”النبايل” و”الخواتم”، و”الخلالة” المزينة بالنقود القديمة، والقلادة المرصعة بالأحجار الكريمة وغيرها من الحليّ التي ارتبطت بزينة المرأة.

وذكرت أن هذه التعاونية لا تزال تشتغل منذ تأسيسها، بالرغم من الإكراهات المرتبطة بانتشار فايروس كورونا، من أجل الإبداع والحفاظ على هذا الموروث الثقافي في انتظار تعافي القطاع السياحي الذي يرتبط به تسويق المنتوج بشكل كبير.

من جانبه، أوضح عبدالحق أرخاوي رئيس جمعية الصياغين بتزنيت، أن التميز الذي تعرفه صياغة الفضة بهذه المدينة يرجع إلى عدة عوامل من بينها عراقة هذه الحرفة بالمنطقة، وتواجد اليهود المغاربة من أصول أمازيغية الذين أتقنوا هذه الحرفة وعلّموها للأبناء والأحفاد من المسلمين واليهود، الذين تعايشوا في هذه المدينة في جوّ ساده الود والتسامح.

وأضاف أن المهارة في صياغة الفضة بتزنيت تتجسد في صياغة الحليّ الفضية بجميع أشكالها مثل “السلك الفضي”، و”الطلاء الزجاجي”، و”الترخام” و”الترصيع”.

وذكر أن المرأة الأمازيغية، لعبت أيضا دورا كبيرا في الحفاظ على هذا الموروث الثقافي، مشيرا إلى أن المرأة لا تقل مهارة عن شقيقها الرجل في صياغة هذا المعدن وتحويله إلى أشكال متميزة.

وتبقى صياغة الفضة بتزنيت، بالرغم من الظروف الحالية، من بين الحرف الأصيلة التي تميّز هذه الربوع الغالية من المملكة، نظرا لعراقتها وخبرة ممتهنيها.

20