ألمانيا بحاجة إلى حد أدنى من التغيير

بدخول ألمانيا مرحلة الحملة الانتخابية تم تأجيل الكثير من القرارات في الاتحاد الأوروبي، بانتظار ما ستفسر عنه انتخابات 24 سبتمبر، والتي لا يتوقع الألمان أن تحمل تغييرا يذكر وسط مشهد تبدو فيه ميركل تنافس نفسها أكثر من منافستها لبقية المرشحين. ويبدو أن الألمان لم يملوا من ميركل، رغم 12 عاما في الحكم، مرجحين كفتها لولاية رابعة ضمن مرحلة لا تحتاج إلى تغيير المستشارة بقدر ما تحتاج تغييرا في سياساتها من أجل ديناميكة جديدة في المشهد السياسي الألماني مثلما يتطلع الأوروبيون إلى دور ألماني أكثر حسما في تشكيل القرارات السياسية والاقتصادية والمؤسساتية في منطقة اليورو.
الثلاثاء 2017/08/29
من الصعب تخطي عتبة ميركل

في دولة توصف ببلد الأفكار والابتكار، فإن السياسة وحدها فقط لا تزال تعيش على إيقاع واحد رتيب منذ أكثر من عقد من الزمان. فمن أجل سمعة ألمانيا، إحدى الديمقراطيات العريقة في العالم والمؤمنة بمبدأ التداول على الحكم، ربما يحتاج الألمان في انتخابات الخريف إلى حد أدنى من التغيير، فقط من أجل التغيير.

ومع مرور 12 عاما في منصب المستشارية وفي ظل النجاحات اللافتة التي حققتها المستشارة أنجيلا ميركل فإن أكثر ما يطمح إليه غالبية الألمان المؤيدين لها هو أن يروا تغييرا من داخل ميركل نفسها بحثا عن حد أدنى من الديناميكية الجديدة في المشهد السياسي الألماني.

الطريق تبدو سالكة لميركل نحو منصب المستشارية، فعدا الاستماتة التي يبديها منافسها داخل التحالف الحكومي، زعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي والرئيس السابق للبرلمان الأوروبي، مارتن شولتز، بالإضافة إلى قادة “البديل من أجل ألمانيا” الشعبوي، فإن ميركل ستكون مرشحة بقوة لخلافة نفسها وفق ما تؤكده كذلك استطلاعات الرأي.

حظوظ كبيرة للمستشارة

حتى الآن تقوم المستشارة الواثقة بجولتها التسويقية بين المدن الألمانية حتى موعد الانتخابات المرتقب في الخريف المقبل، وهي تعوّل أساسا على عاملي الاستقرار والزخم الاقتصادي لثالث قوة اقتصادية في أوروبا في ظل حكومة التحالف المسيحي الحالي، من أجل الاستمرار في قيادة ألمانيا والقاطرة الأوروبية لولاية رابعة.

ومعلوم أن ميركل لا تدخل هذه الانتخابات فقط كممثلة للاتحاد المسيحي الديمقراطي والتحالف المحافظ. فبعد موسم انتخابي صاخب على وقع انتفاضة اليمين على طرفي الأطلسي، وخاصة في الجارة فرنسا، تبرز ميركل في مهمة أساسية لدق آخر مسمار في نعش اليمين بعد هزائمه المتلاحقة غرب أوروبا. لكن مع ذلك ستظل العيون شاخصة نحو أي مدى يمكن لحزب البديل الشعبوي، حامل لواء اليمين، التنغيص على الاتحاد المسيحي الديمقراطي وبدرجة أقل الحزب الاشتراكي الديمقراطي، خاصة مع النتائج غير المسبوقة للأحزاب الرديفة في فرنسا وغيرها في أوروبا.

كما سيكون الاهتمام منصبّا على تركيبة التحالف المقبل ومن سيضع يده في يد المستشارة إلى جانب الاتحاد المسيحي الديمقراطي في الحكم.

يحسب لميركل في ولايتها الأخيرة أنها نجحت رغم عاصفتي اللاجئين من الشرق الأوسط وتداعيات بريكست، في تحييد ألمانيا نسبيا عن حمى اليمين المتطرف، بفضل الأداء الاقتصادي القوي للحكومة الحالية ومع تحقيقها فائضا غير مسبوق في إيراداتها في النصف الأول من هذا العام بمقدار يساوي 18.3 مليار يورو أعلى من النفقات، وهو الأعلى منذ توحيد شطري ألمانيا.

كما تملك المستشارة الملقبة بـ"حاكم الأمر الواقع" في جعبتها نجاحات سابقة في ملفات شغلت الرأي العام في ألمانيا على مدى السنوات الأخيرة مثل الطاقة والعلاقات الخارجية والتجارة الدولية بجانب معالجتها الحالية لملف الهجرة الشائك.

لكن التحدي الأكبر يبرز في مدى قدرة المستشارة على إشاعة الثقة لدى الألمان في مواجهة الخطر الإرهابي المتنامي والذي ظل على مدى عقود طويلة بعيدا عن أرض ألمانيا.

وليس هذا فحسب فإن أكثر ما يتطلع إليه الألمان هو ما إذا كانت المستشارة ستمضي أكثر في إبراز مشاعرها الإنسانية التي ظهرت في فترات سابقة على نحو نادر، إذ لطالما لعب حليفها ومنافسها الحالي شولتز على هذا الوتر ليقدم نفسه إلى الناخبين كمرشح مختلف، رصين وهادئ ويحمل مزيجا من الخبرات السياسية والإنسانية.

رغم قفزتها غير المحسوبة في ذروة الهروب الجماعي من الشرق الأوسط عبر تركيا، نجحت ميركل في أن تكسب ألمانيا بجدارة حربا أخلاقية

طريق التغيير

بدأت ميركل تعمل في ما يبدو على إدراك تلك العيوب وتداركها. فعلى العكس من تصورات شولتز، أعطت الوريثة الأولى للمرأة الحديدية تعريفا إنسانيا جديدا لنفسها ولبلدها ألمانيا بأن فتحت الأبواب على مصراعيها لمئات الآلاف من اللاجئين الذين شقوا أوروبا مشيا للقدوم إلى ألمانيا.

قد تكون كلفة ذلك مؤلمة للمستشارة التي قوبلت بدعوات السخط واتهامات بالخيانة في مقاطعة سكسونيا قرب معقل نشأتها وولادتها شرق البلاد. إذ لم تشفع لها هناك نضالاتها السياسية الأولى مع حزب الصحوة الديمقراطية ومن بعده الاتحاد المسيحي الديمقراطي قبل الوحدة، ومن ثم صعودها إلى منصب وزيرة المرأة في الحكومة الاتحادية الأولى تحت قيادة المستشار الراحل هلموت كول.

ومع ذلك فقد مكّنت مخاطرة ميركل الكبرى في انتهاج سياسة الأبواب المفتوحة مع أمواج اللاجئين، وعلى عكس توقّعات خصومها المتربصين في ولايات الشرق خاصة، من تعزيز صورة ألمانيا في العالم. فرغم قفزتها غير المحسوبة في ذروة الهروب الجماعي من الشرق الأوسط عبر تركيا، نجحت ميركل في أن تكسب ألمانيا بجدارة حربا أخلاقية ظلت على مدى عقود طويلة تلطخ سمعة برلين منذ أيام مراكز الاعتقال النازية وفرق التفتيش.

من دون شك لعبت مأساة الطفل الكردي آيلان في بحر إيجه دور البطولة في الكشف عن الوجه الآخر الذي أبدته ميركل الجادة والمتصلبة في وجه الألمان والعالم. فقبل أشهر قليلة فقط من تلك المأساة كانت نسبة السخط عالية بوجه المستشارة في ما يرتبط بالسياسة المتشددة في مجال الهجرة والإدماج.

إذ تحتفظ وسائل الإعلام الألمانية والدولية بشكل خاص بحوارها الجاف والمتصلب مع فتاة فلسطينية مهددة بالترحيل هي وعائلتها في برنامج تلفزيوني، كأحد أكثر المواقف الخرقاء للمستشارة.

كان الموقف اختبارا علنيا بين ميركل المستشارة والإنسانة. اكتفت فيه المستشارة في الأخير بالتربيت فقط على كتف الفتاة وهي تذرف الدموع خوفا من الإبعاد والترحيل، ودون أن تبدي أي تحفظ على القوانين الجامدة وسلطة البيروقراطية.

ربما نجحت المستشارة لاحقا وعبر الترحيب الواسع باللاجئين، أيا كانت الأهداف البعيدة لذلك، في أن تتدارك ذلك الموقف وتنفخ من جديد في ما تروّج له دائما مدرسة فرانكفورت النقدية من إعلاء قيمة الإنسان ضد هيمنة الرأسمالية المتوحشة وتجاوز إرث ثقيل من السياسات العدوانية والانتهاكات الممنهجة.

ولكن ما يزال هناك الكثير يتعيّن فعله لتأكيد هذا التغيير بالنسبة إلى ميركل وألمانيا معا خاصة في ما يتعلق بالسياسات المفترضة والأكثر عقلانية لحل الهجرة السرية عبر المتوسط وإبداء مرونة أكبر إزاء الحق الطبيعي في الهجرة وحرية التنقل بصورة شرعية، إلى جانب تبسيط القوانين المرتبطة بلمّ الشمل والحالات الإنسانية بشكل عام.

6