أكثر من شهر على الكارثة… الأحوال في درنة لا تتحسن بسرعة

طرابلس - أكثر من شهر مضى على الكارثة التي حلّت بمدينة دَرْنَة الليبية، والأحوال في المدينة لا تتحسن بسرعة. ففي العاشر من سبتمبر الماضي ضربت عاصفة دانيال المتوسّطية شرق البلاد، وتسبّبت أمطارها الاستثنائية (400 ملم) في غرق مدن الجبل الأخضر، في ما أدى تراكم المياه إلى انهيار سَدَّي وادي درنة واختفاء ثلث المدينة من الخارطة، بعد أن اقْتُلِعَت المباني من قواعدها وجُرِفَت بِسكانها نحو البحر، وانهارت كل الجسور الرابطة بين ضفّتي درنة والمدن الأخرى أيضا، هذا بالإضافة إلى أضرار أقل في المناطق الأكثر ارتفاعاً.
ومع أن الأزمة أسفرت عن تلاحم اجتماعي غير مشهود مؤخرا بين الليبيّين تجلّى في حملات إنقاذ وإغاثة تنادت لها كل المدن، تأثر التعاطي الرّسمي مع الأزمة بالانقسام السياسي والصراع بين حكومتي طرابلس وبنغازي، في الوقت الذي لم يتضح فيه بعد مسار البلاد نحو الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المؤجلة منذ 2021. وتجلّى واقع التعاطي الحكومي الضعيف في سوء تنظيم جهود الإنقاذ والإغاثة وتحديث الإحصائيات.
ولم يكشف رسمياً إلى الآن عن أعداد نهائية للمفقودين، في ما بلغت آخر إحصائية للوفيّات 4278 شخصا، بحسب الناطق باسم القوات المسلحة الليبية أحمد المسماري. ولا تُقنع هذه الأرقام م. العوكلي أحد وجهاء درنة، الذي علّق عليها قائلا “اختفاء ثلث المدينة يعني أن 40 ألف شخص تأثروا مباشرة من السيول، إما جرفاً نحو البحر أو ردماً تحت الطمي، أو نجوا بصعوبة بالغة، ولهذا فالأرقام المُعلنة لا تصل حتى إلى نصف الضّحايا”.
◙ التعاطي الرسمي مع الأزمة تأثر بالانقسام السياسي والصراع بين حكومتي طرابلس وبنغازي في وقت لم يتضح فيه مسار الانتخابات الرئاسية والبرلمانية
ونقلا عن بعض سكان درنة فإن توقعاتهم للوفيّات والمفقودين تتراوح بين 10 و15 ألفا، ويرجح البعض أن تفوق ذلك. ويوضح الناطق باسم الهيئة العامة للبحث والتعرّف على المفقودين عبدالعزيز الجعفري أن أرقام الوفيّات المعلنة “تخص فقط من تم التعرف على هوياتهم”. ويُفصح قائلاً لوكالة الأنباء الألمانية “كثيرون تم دفنهم دون التعرف عليهم ولا أخذ عينات DNA، خاصة خلال الأسبوع الأول، ولهذا يجب استخراج هؤلاء لأخذ عينات وإجراء مقارنات فحوص البصمة الوراثية مع أسر المفقودين، وهذا ما سنشرع في تنفيذه لاحقا”.
وفي رد على افتراضات البعض أن هذه الإجراءات ستستغرق وقتا طويلا، مستندين إلى تأخر إغلاق ملف مقابر ترهونة الجماعية المفتوح منذ 2020، يقول الجعفري “المسألة لن تطول، فمقابر درنة معروفة المكان، على عكس ترهونة التي استغرق اكتشافها وقتاً”.
ويشير الجعفري إلى أن تقاطع التخصصات “عرقل جهود التعرف على الجثث وتحديث أعداد الوفيات المؤكدة”، لكن الاجتماع الأخير الذي نسّقه النائب العام بين الهيئة وقادة فرق الطب الشرعي؛ والمباحث الجنائية، “وزَّع المهام، وسَيُسَرِّع الوتيرة”، كما يتوقع. وأكّد الجعفري شُروع فِرقهم بأخذ العينات من أقارب المفقودين، مُبدياً قلقه من أن وفاة عائلات كاملة قد يعطّل بعض الفُحوص.
وفي مقابل ذلك يتوقع العوكلي وجود أغلب المفقودين في عمق البحر بعد شبه اكتمال البحث تحت الأنقاض. ومع تنازل الأعداد المنتشلة يومياً إلى بضع عشرات يَتَوَلَّد سؤال عن مصيرهم، وعن الاحتمالات التي باتت ضعيفة في العثور عليهم جميعاً، وهو أمر يُؤرّق الدرناويّين.
ويؤكّد مدرّب الغوص مروان الوليد صحة هذه الهواجس حين يقول “جثث كثيرة تمزّقت أو تهشّمت وتقطّعت أوصالها قبل الوصول إلى البحر، بسبب انهيار المنازل قبل الجرف، والاصطدام أثناءه بِرُكام وصخور المدينة والأشجار القادمة من عمق الوادي”. ويضيف “من ناحية أخرى ترافق غرق الجثث في البحر مع درجات مياه عالية ساعدت على سرعة التحلل، وكذلك تيارات قوية أدت لانتشارها على نطاق أوسع حتى وصلت شواطئ طبرق”، نحو 150 كيلومترا إلى الشرق.
ومع هذه الحرارة، يفترض الوليد “طفوّ أغلب الجثث في غضون أربعة أيام بعد بدء التحلل وتشكل الغازات داخلها”، وهو ما ساعد في العثور على الكثير منها خلال الأسابيع الأولى. لكن “وجود جثة داخل سيارة مثلا أو تراكم الركام فوقها يعيق الطفو، ويستوجب جهودا أكثر، قد لا تُكلل كلها بالنجاح”، على حد وصفه.
ويؤكّد العوكلي استمرار استخراج الجثث من داخل السيارات المنتشلة من ميناء درنة، ويتوقّع وجود أعداد كثيرة من السيارات وكميات ضخمة من الركام داخله قد تعيق ظهور المزيد. وداخل المدينة، بدأت تظهر بعض ملامح عودة الحياة، ولو على استحياء، فقد انتعشت من جديد الأحياء المرتفعة الأقل ضرراً، مثل: السلام، وشيحا، وباب طبرق، ، فيما تحسنت الأمور نسبيا بوسط المدينة الساحلي بعد أعمال تنظيف تطوّعية شبابية، لكن مستجدات أخرى بدأت تزعج السكّان.
وبدأت القصة وفق حديث العوكلي بعد الوقفة الاحتجاجية التي نظمها الأهالي يوم 18 سبتمبر، ومطالبتهم بإقالة شخصيات سياسية ومحاسبتهم عن التأخر في صيانة السدود قبل انهيارها. وقد اتخذت السلطات عقب ذلك إجراءات مشددة ضد السكان والناشطين والصحافيين، وفرضت قيودا على المساعدات القادمة من غرب البلاد. ويقول العوكلي “منذ ذاك توقفت الإعانات الإنسانية عن دخول المدينة، وبدأت أعداد النازحين خارجها في التزايد.
◙ يبدو أن هناك خطرا آخر يهدّد درنة يتمثل في أن غياب السُدُود سيجعلها عرضة لفيضانات أخرى قد تحدث خلال الشتاء الذي يطرق الأبواب
وفي تصريح صحفي، كشف المستشار العام بمركز البحوث النفسية بالهيئة الليبية للبحث العلمي خالد المختار عن “وجود 1085 أسرة نازحة من درنة في المدن الليبية”، بينما قدّرت البعثة الأممية "نزوح 43 ألف شخص”، ومن غير المستبعد أن تكون الأرقام أكثر، خاصة مع بدء بعض شباب درنة في تركها فُرادى، كما تشير الشواهد.
ولعل الشباب هم الأكثر تأثراً بكارثة درنة، فقد أكد العوكلي انتحار ستة منهم حتى الآن بسبب الضغوط النفسية، فيما أعلن رسميا عن انتحار أربعة حتى الآن وفق تصريح المختار الذي كشف عن ظهور العديد من الأعراض كالقلق الحاد والخوف وعدم قبول الآخر والاكتئاب والإحباط وانفصام الشخصية واضطرابات النوم، معبراً عن تخوّفهم من “عدم حدوث توافق اجتماعي ونفسي للأهالي والأسر النازحة بشكل قد يدفع لمواجهة الكثير من الأمراض العقلية وتعاطي المخدرات والخمور".
وكانت وزارتا الصحة بالحكومتين قد أعلنتا عن تشكيل لجان خاصّة بالدعم النفسي، لكن يبدو أن الفعل والأثر “لم يتعدّ تشكيل اللجان بكثير”، وفق ما يفيد العوكلي الذي نفى رؤية أيّ لجان نفسية في المدينة، باستثناء بعض شباب الكشافة الذين يرفِّهون عن الأطفال أحيانا، كما يقول.
وفوق كل ذلك، يبدو أن هناك خطراً آخر يهدّد درنة، كما يشير الناشط، محمد سعيد ويتمثل في أن "غياب السُدُود سيجعلها عرضة لفيضانات أخرى قد تحدث خلال الشتاء الذي يطرق الأبواب". وقد أدت الأمطار الأخيرة إلى انجرافات جديدة في طرق المدينة. ولذلك، كما يقول العوكلي، فإن "القلق والخوف من الغد هما عنوان العيش في مدينة بات أطفالها يرتعدون بمجرّد سماع صوت المطر".