أكثر من تمرد: كيف دمر بوتين الدولة الروسية

جاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليعيد بناء الدولة الروسية، لكن سنوات حكمه أكدت أنه دمر الدولة وجعل مؤسساتها والنخب السياسية موالية له، الولاء التام، وهو ما يهدد استمرار الدولة التي صارت تقوم على جماعات تسعى للتربّح الشخصي.
واشنطن - لطالما روّج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لنفسه على أنه الرجل الذي أعاد بناء سلطة الدولة الروسية بعد فوضى التسعينات. لكن تمرد مجموعة فاغنر يؤشر على أن هذا غير صحيح؛ حيث كان تحديا مسلحا لسلطة بوتين وأكّد أن العلاقة بين زعيم الكرملين ويفغيني بريغوجين الذي يدير شركة فاغنر العسكرية الخاصة كانت نموذجا لكيفية تعامل بوتين مع الآخرين من النخب السياسية الروسية في جميع المجالات.
وعمل الرئيس الروسي على تدمير مؤسسات الدولة واستبدالها بأخرى على أساس العلاقات الشخصية والتفاهمات الخاصة، وهو الوضع الذي دفع بعض المراقبين إلى وصف نظامه بالدولة الفاشلة.
ويرى المحلل السياسي بول غوبل في مقال نشرته مؤسسة جيمس تاون الأميركية أن هذا يزيد المخاوف بشأن المرحلة الانتقالية التالية لحكم بوتين، حيث يمكن أن يؤدي غياب ارتباط المؤسسات ببعضها البعض بموجب القانون والممارسة الشفافة إلى حرب الكل ضد الكل، في سيناريو ستحدد فيه القوة وحدها النتيجة.
ومعظم التعليقات الغربية على انتفاضة فاغنر ركزت على الأحداث نفسها بدلا من التعامل مع تصرفات بريغوجين وبوتين على أساس
أنها أشعة سينية تكشف عن طريقة اشتغال نظام القوة الروسي الحالي. وفي المقابل يركز عدد متزايد من المراقبين الروس على هذا الجانب بالتحديد. وربما يكون أكثر هذه التحليلات عمقا وشمولية تقرير الباحث الروسي إيليا ماتفيف الذي يدرّس الآن في جامعة كاليفورنيا بيركلي. ويجادل فيه بأن الشركات العسكرية الخاصة التابعة لبريغوجين وأفعالها ليست بعيدة عن المشهد الروسي كما يعتقد الكثيرون، بل هي تسلط الضوء على الطرق التي أثرت بها هذه المنظمات على الجيش الروسي ودمرت الدولة الروسية.
وحسب ماتفيف يواصل الكثيرون الإشارة إلى أن الدولة الروسية هي مجموعة عملاقة من المؤسسات المخصخصة وشبه المخصخصة التي ترتبط ببعضها البعض وبالكرملين على أساس هذا الواقع وليس وفقا للمعايير التقليدية في دولة فاعلة. ويقول الباحث الروسي إنه عندما أصبح بوتين رئيسا أعلن أن “روسيا بحاجة إلى سلطة دولة قوية ويجب أن تمتلكها”. لكنه أضعف الدولة خلال 23 عاما من حكمه، من حيث احتكارها لاستخدام العنف ومن حيث مكانتها ككيان واحد يسيطر عليه مركز واحد. ولذلك تبين أن “السلطة العمودية” التي أطلقها بوتين “هشة مثل الكوب الفخاري”.
ولم يحدث هذا بسبب بعض التحول التكتوني وإنما حدث نتيجة مباشرة لأفعال بوتين. وأراد الرئيس تحديث الاقتصاد الروسي لكنه “لم يثق في الأعمال الخاصة أو الدولة نفسها”. ولذلك تحول بوتين إلى تشكيل “شركات حكومية” احتلت منطقة رمادية بين الاثنين ثم وسعت المبادئ التي تأسست عليها لتشمل أجزاء أخرى من النظام السياسي.
الرئيس الروسي عمل على تدمير مؤسسات الدولة واستبدالها بأخرى على أساس العلاقات الشخصية والتفاهمات الخاصة
ويرى ماتفيف أن الدولانية (سيطرة الدولة) في نسخة بوتين ليست متسقة مع المثل الفيبيرية المتمثلة في هيئة بيروقراطيين عقلانيين، بل مع أيديولوجيا “المصالح الوطنية” المحددة التي لا يهم فيها سوى النتيجة المحققة بغض النظر عن الوسائل المتبعة في تحقيقها. وأصبح الولاء الشخصي لبوتين هو كل شيء، بينما أصبح الولاء للدولة أقل أهمية من أي وقت مضى. وأدى ذلك إلى مواقف غالبا ما قاومت فيها الشركات الحكومية والشركات العسكرية الخاصة التي تشكل مجموعة فرعية منها مطالب الدولة عادة بطرق غير عنيفة، ولكنها الآن تعتمد وسائل عنيفة أيضا.
وقرر بوتين ذلك “لأن مهمته الرئيسية كانت دعم نظام السلطة الشخصية” بدلا من إنشاء دولة قوية في حد ذاتها. لكن من المفارقات، حسب الباحث الروسي، أن تقوية النظام السياسي (أي نظام سلطة بوتين الشخصية) “أدت إلى إضعاف الدولة”، وسيكون العكس صحيحا أيضا، مما يجعل أي انتقال مستقبلي صعبا لزعيم يسعى إلى بناء قوته.
وبناء على تصريحات الباحث البريطاني نيل روبنسون قال ماتفيف إنه من الممكن تماما التمييز في الحالة الروسية بين بناء الدولة وبناء النظام وأن نرى بوضوح كيف يمكن أن يؤدي السعي لتعزيز أحدهما إلى إضعاف الآخر. وركز بوتين على بناء النظام الأخير، وكانت النتيجة تمرد بريغوجين “الذي كشف عن ضعف الدولة الروسية” الذي ولّدته سياسات الرئيس.
اقرأ أيضا:
ويرى ماتفيف أن “وراء الواجهة المتجانسة للبوتينية توجد الجماعات والشبكات والشركات التي تسعى لتحقيق أهدافها الخاصة وهي قادرة تماما على التسبب في انهيار البلاد ونشوب الحرب الأهلية”. ومن المفيد إدراك أن تمرد أحد هذه الكيانات يواجهه كيان آخر، هو القوات الشيشانية بقيادة رمضان قديروف. وجادل الباحث بأن أي تحرك نحو الديمقراطية سوف يدخل اضطرابا على الدولة كما حدث في التسعينات. “لكن التحول الديمقراطي وحده هو الذي يمكن أن يؤدي في النهاية إلى ظهور دولة قوية في روسيا”. وكان بوتين على صواب في 1999، ولكن الأمور تغيرت منذ ذلك الحين مع عمله على توسيع سلطته.
ويقول بول غوبل إن الكثيرين لا يزالون مترددين في الحديث عن روسيا كدولة فاشلة لأن بعض مكونات النظام السياسي الروسي لا تزال قوية. لكن هذا التردد يتغاضى عن الرأي الذي يفيد بأن الدولة الفاشلة ليست دولة دون لاعبين أقوياء، بل هي نظام سياسي دون مركز متحكم إلى درجة أنه إذا مُحي الدكتاتور من المشهد يمكن أن يكون الافتقار إلى المؤسساتية التي أسسها قاتلا. ومع انحسار قوة بوتين إثر تمرد بريغوجين ولأن تقدمه في السن أدى إلى زيادة المخاوف بشأن إرثه، ستظهر في المناقشات حول مستقبل الاتحاد الروسي حقيقة أن الرئيس قد دمر الدولة الروسية بدلا من إعادة بنائها على أسس متينة.