أفول نجم الحركات الانفصالية: نهاية غير مكتملة أو دول فاشلة

الرباط – فشلت جبهة البوليساريو الانفصالية من خلال محاولات التصعيد الأخيرة في أن تظهر بمظهر الطرف القوي وتلفت الأنظار عن مناخ التمرد وحالة الاحتقان المتسعة بين الشباب في مخيمات تندوف. ويؤكد الخبراء أن كل تصعيد أو حركة استفزازية جديدة، تعكس بين طياتها قلقا من الانفصاليين على مستقبلهم في وقت يتراجع فيه بشكل واضح نجم الحركات الانفصالية، وخصوصا المسلحة التي تصنف أغلبها حركات إرهابية.
في خضم الفوضى التي شهدها العالم مع الأزمة الاقتصادية والربيع العربي وموجات الهجرة وصعود الشعبوية، نشطت بعض الأصوات الانفصالية، في مختلف قارات العالم، وتكاثرت الحركات المنادية بـ”الاستقلال”، من أوروبا إلى عمق أفريقيا، لكن سرعان ما خفتت هذه الأصوات مع صعود الشعبوية القومية في بعض الدول وتعلم دول أخرى من درس النماذج الفاشلة من حالات الانفصال، يضاف إلى ذلك تراجع القاعدة الأيديولوجية والثقافية والسياسية التي كانت تغذي الحركات الانفصالية.
لئن شهدت الحركات الانفصالية ذروتها في العام 2017 وتجلّت مظاهرها دوليا في اتجاهات انفصالية حادة شملت العديد من الحالات مثل إقليم كتالونيا المطالب بالانفصال عن إسبانيا أو إقليم كردستان في العراق، ظهرت مؤشرات عدّة تدل بقوة على تراجع نسق هذه النزعة المتمردة لدى معظم الفئات الشابة في العالم بحكم العديد من العوامل الأيديولوجية بالأساس وفي مقدّمتها خفوت أصوات الانفصال في دول المنبع أو ذات الرمزية التاريخية لهذه الحركات الثائرة خاصة في أميركا اللاتينية.
بين التحرر والانفصال
تكتسي الحركات الانفصالية التي طفت على سطح الأحداث العالمية غداة الحرب الباردة وتغذّت نعراتها بشكل أقوى منذ فترة السبعينات طابعا آخر مغايرا تماما لما اتفق عليه في المواثيق الدولية حول حق الشعوب في تقرير مصيرها.
وعلى عكس حركات التحرر الهادفة للانعتاق من الاستعمار والداعية لوجوب منح الشعوب الحق في تقرير مصيرها والاعتراف بشرعية كفاحها، فإن الحركات الانفصالية تستهدف وحدة الدولة وسيادتها، إذ يقوم التوجه الانفصالي وجوبا على دوافع عرقية أو قومية أو دينية أو سياسية، وكثير منه يعتمد على التمويلات الخارجية.
على الرغم من تشعّب أسباب وتداعيات النزعات الانفصالية، فإنّ فهم طبيعتها يستوجب أيضا البحث في الإرهاصات التي حفّت بهذه الظاهرة، ليثبت جليا أنه بمجرّد القيام بجرد بسيط في تجارب انفصالية عدة أن الكثير من الشباب الحالم قد أفاق على حقيقة مفادها – رغم إكراهات النزعات العرقية والدينية أو الفكرية- أن الحركات المتمرّدة مغايرة تماما في مفاهيمها ومقاصدها عما نظّر له كل الفلاسفة تقريبا حول الحريّة أو التحرّر أو الانعتاق من سطوة الآخر مما جعل أهداف وأساليب هذه الحركات الفوضوية والمسلحة لا تحظى في غالب الأحيان بإجماع حتى صلب الانفصاليين أنفسهم.
وخير الدلائل على تراجع الزخم الفكري للنزعة الانفصالية أن كل المتغيّرات الجيوسياسية والعسكرية التي شهدها القرن الماضي تشير إلى أن جلّ حاملي أدبيات الانفصال تأبّطوا بلثام لا يدل في بواطنه على أنه لحركة تحررية بقدر ما هو قائم على نزعات أيديولوجية تصل حدّ العنصرية، علاوة على تأكّد شريحة واسعة من الداعمين للفكر الانفصالي بأن حركاتهم التي يعتبرونها تحررية تكتسي بعدا تآمريا تخريبيا.
ولمزيد فهم ظاهرة عزوف الفئات العمرية الشابة في مختلف دول العالم عن نزعات التمرّد الانفصالية بالشكل المطلوب، لا بد من التعريج على أن جل الحركات الانفصالية في العالم عرفت فشلا ذريعا في تحقيق أهدافها الأساسية حتى وإن حققّت ما تصبو إليه من استقلال وخير دليل على ذلك تجربة جنوب السودان، فكل الوهن والضعف وعدم القدرة على تركيز دولة قوية متأت بالضرورة من المرتكزات الأولى التي تقوم عليها العقيدة الانفصالية المبنية أساسا على متناقضات صراع أيديولوجي قد يتنافى تماما مع مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها والذي عادة ما تتسلح به كل الحركات المتمرّدة برغم اختلافاتها العميقة الدينية أو العرقية كذريعة للحلم بحكم ذاتي وبدولة مستقلة.
ويأتي فشل الحركات الانفصالية في جانب منه من نزعتها الفكرية، إذ أن التاريخ المعاصر يحفظ أن الصراع الأيديولوجي كان هو المحور الرئيسي لكل الأزمات الانفصالية المتمرّدة وتحديدا عقب فترة الحرب الباردة التي انعكست بصفة أتوماتيكية على العلاقات السائدة بين مكونات مختلف الشعوب التي عرفت نزعات عرقية أو دينية وصلت حد اندلاع حروب أهلية مزقت دولا وقسمتها إلى أقاليم محدودة النفوذ إقليميا ودوليا.
وتحليل بواطن فشل كل الحركات الانفصالية لا يستدعي مجهودا بل يتطلب فقط دراسة منطقية لواقع وصيرورة الأحداث، إذ أتاح انتهاء الحرب الباردة ظروفا وأطرا وأرضيات سانحة لتفشي الحركات الانفصالية، ليصطدم في ما بعد كل أتباع النزوات الانفصالية بتحول الشعارات والمبادئ المتجملة بالتحرر وقيم حقوق الإنسان بفرض قوة السلاح والدخول في متاهات دمرّت جزءا كبيرا من الإنسانية عبر صراعات دموية واسعة امتدت لسنوات في بعض التجارب.
جل الحركات الانفصالية في العالم عرفت فشلا ذريعا في تحقيق أهدافها الأساسية حتى وإن حققت ما تصبو إليه من استقلال
كما أن الكثير من الشعوب التي تشعر بنوع من الاضطهاد داخل دولها بسبب عرقها أو لونها أو ديانتها باتت تحسب ألف حساب لما ينتظرها في المستقبل بمجرّد نيل الاستقلال أو الحكم ذاتي خوفا من مغبة تكررّ ما حصل مع كل الحركات الانفصالية التي رافقت تفكّك الاتحاد السوفييتي في العام 1989 وخاصة الاتعاظ من أزمات حروب يوغسلافيا التي تعدّ أكثر النماذج وضوحا والتصاقا بمخيّلات كل أصحاب الفكر الانفصالي وذلك رغم نجاحها في الانعتاق من الإمبراطورية الروسية عقب حرب البوسنة وكوسوفو.
إيتا تحل نفسها
في خضم الضجيج الذي أثاره استفتاء إقليم كتالونيا الأسباني واستفتاء كردستان العراق، وكلاهما انتهى بنتيجة رافضة للانفصال، في وقت شهدت فيه الحركات الانفصالية نشاطا مكثفا، تفاجأ العالم بقرار منظمة “إيوسكادي تا أسكاتاسونا” (وتعني باللغة الباسكية أرض الباسك والحرية)، المطالبة باستقلال إقليم الباسك عن إسبانيا، حل نفسها وهياكلها بالكامل، بعد صراع مع مدريد دام حوالي ستة عقود. وتأسست منظمة إيتا على أيدي طلاب جامعيين متشبعين بالفكر القومي في عام 1959 باعتبارها حركة قومية ثورية تحررية تسعى للمطالبة بحق تقرير المصير والاستقلال عن إسبانيا.
ولا يمكن قراءة حال الحركات الانفصالية بمعزل عن واقع جديد ألقى بظلاله على الحركات الانفصالية في مختلف أنحاء العالم. يتمثل هذا الواقع في تراجع حدّة نزعة الشباب الثائر مهما كانت انتماءاته السياسية أو الفكرية أو الدينية أو العرقية عن الهوس بنعرات الانفصال.
ويتطلب الخوض في هذه المسألة المتشعبة البحث في الأسباب الحقيقية لتراجع حدة الفكر الانفصالي الغارق في الأيدولوجيا، إذ أن الدواعي الأساسية تبدو في ظاهرها نتاجا آليا لهزيمة ميدانية لكنها تحمل أيضا في باطنها أبعادا أخرى تؤكّد أن المنظرين للتوجهات الانفصالية لم يعودوا ربما قادرين على التجييش أو الاستقطاب خصوصا للفئات العمرية الشابة الدارسة بعُمق لنجاح الكثير من التجارب في الانفصال عن الدولة الأم وما رافق ذلك من فشل ذريع في بناء الدولة المنشودة المستقلة والقوية. سواء كانت الحركات الانفصالية مدعومة من جهات خارجية أو ضمن مسعى لحزب سياسي أو توجه حكومة، على غرار حكومة إقليم كردستان العراق، فإن النتيجة تكاد تكون متشابهة من حيث الفشل في تحقيق الانفصال.
في المثال الكردي يتبين لغالبية حاملي فكرة الانفصال في كردستان أنه لا يمكن العيش خارج دوائر الحكم المركزي للعاصمة بغداد خصوصا بعد فقدان الكثير من الأراضي، بما في ذلك مدينة كركوك الكبرى وحقول النفط المربحة، في ضربة قوية للأحلام الكردية بالاكتفاء الذاتي الاقتصادي والاستقلال في نهاية المطاف.
من كردستان إلى كتالونيا، الوضع ليس بأحسن حال هناك، فكتالونيا بدورها يبدو أنها تسير في طريق التراجع عن الانفصال. والدليل على ذلك أن الأزمة حول حملة استقلالها عن إسبانيا وصلت إلى لحظة صعبة ومنعطف خطير بالنسبة لمؤيديها، مع إعلان الحكومة المركزية الإسبانية في خطوة جذرية إقالة وتجميد زعماء المنطقة الانفصاليين من البرلمان الإسباني.
كل هذه الإرهاصات مرفوقة برفض كبار الدول في أوروبا والعالم لاستقلال إقليم كتالونيا أدت على أرض الواقع إلى إصابة الكتالونيين بخيبات وإحباط كبير قد يفرض عليهم الاستسلام أو حتى التراجع نهائيا عن فكرة الانفصال بسبب معوقات موازين القوى مما قد يؤدي بالنهاية إلى مراجعات أشمل قد تطال فكرة الانفصال.