أفلمة المسرح ومسرحة السينما ظاهرة فنية لافتة

تحويل المسرح إلى السينما خطوة إلى الأمام.. أما إلى التلفزيون فحديث آخر.
الجمعة 2020/12/11
"الهربة" التونسية.. سلاسة العبور من الفن الرابع إلى السابع

أعمال مسرحية كثيرة في التاريخ تحوّلت إلى أفلام سينمائية وحافظت على سحرها بل ازدادت تألقا بفضل ما يقدّمه الفن السابع من تقنيات وسهولة في الانتشار. ويشهد مهرجان أيام قرطاج السينمائية في دورته الـ31 المرتقبة مثل هذه التجارب على غرار فيلم “الهربة” الذي هو في الأصل مسرحية لصاحبها غازي الزغباني. لكنّ لتحويل المسرح والسينما إلى دراما تلفزيونية حديثا آخر.

ستكون للدورة الحادية والثلاثين لأيام قرطاج السينمائية التي تمتد في ما بين 18 و23 ديسمبر الجاري، نكهتها الخاصة هذا العام، إذ تنعقد في ظروف بالغة الخصوصية على الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية، خصوصا مع استمرار تفشي جائحة كورونا التي تسبّبت في إلغاء الجوائز الرسمية. لكنها دفعت إلى ما هو فائق الوفاء والإخلاص إلى الفن السابع وهو “الحنين”، إذ يُفتتح المهرجان الذي يستمر ستة أيام، بستة أفلام قصيرة من إنتاج المركز الوطني التونسي للسينما والصورة في العام 2020، كما أكّد مديره المخرج السينمائي رضا الباهي، وهي مستوحاة من أفلام تونسية طويلة تركت أثرها في المهرجان خلال دوراته من 1966 إلى 2019.

الخصوصيات كثيرة في هذه الدورة التي رفعت شعار “لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس”، وذلك انطلاقا من تخصيصها لجائزة الاختتام باسم فارس الثقافة التونسية، المناضل الراحل الشاذلي القليبي، إلى احتوائها لأفلام تعرض للمرة الأولى، ومنها ما يُنقل من خشبة المسرح إلى الشاشة السينمائية مثل “الهربة” للفنان المسرحي الشاب غازي الزغباني، على غرار تجربتين سابقتين للمسرحي فاضل الجعايبي في “عرب” و”جنون” في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي.

بشير الديك: إعادة تقديم الأعمال المسرحية أو السينمائية في مسلسلات تعدّ إفلاسا فكريا لدى كتاب الدراما
بشير الديك: إعادة تقديم الأعمال المسرحية أو السينمائية في مسلسلات تعدّ إفلاسا فكريا لدى كتاب الدراما

تجارب عالمية

ليس جديدا أن تتحوّل المسرحيات الشهيرة إلى أعمال سينمائية خالدة، وتحافظ على سحرها ورونقها بذات الدهشة والجاذبية، فمن منا لا يتذكّر روائع شكسبير التي تحوّلت إلى أيقونات سينمائية كـ”روميو وجولييت” وقبلها “ترويض النمرة” على يد فرانكو زفيرلّي عام 1967، وكذلك مسرحية الأميركي تينس وليامز “عربة اسمها الرغبة” التي استحالت إلى شريط سينمائي آسر على يد إيليا كازان.

أما مسرحية “الموت والعذراء” للكاتب التشيلي آرييل دورفمان، فأخرجها للسينما رومان بولانسكي عام 1994. وكتب دورفمان هذه المسرحية المدهشة عن أحداث التعذيب في معتقلات بينوشيه في التشيلي، بطلتها “باولينا” التي تعرّضت عندما كانت طالبة في كلية الطب للتعذيب اغتصابا قبل خمسة عشر عاما من زمن عرض المسرحية؛ باولينا، المتزوّجة من محام معروف ومطّلع على مسائل حقوق الإنسان وملفات التعذيب في العهد السابق، تسوق إليها الصدفة الطبيب الذي كان يشرف على وقائع اغتصابها على وقع رباعية شوبرت الوترية والتي تحمل اسم “الموت والعذراء”، يتصاعد الخط الدرامي بسبب هذه الصدفة حيث تحتجز باولينا مغتصبها السابق أمام أعين زوجها، وتنتزع منه الاعتراف بما اقترفه في حقها.

وبالعودة إلى فيلم “الهربة” المنقول عن مسرحية الزغباني، فإن ما أعدّه وكتبه هذا الفنان الشغوف، صاحب فضاء “الأرتيستو” المولع بالبحث والتجريب، يعتبر حكاية متفرعة عن أكثر من حكاية، تتحدّث عن شاب متشدّد دينيّا يهرب من الشرطة وسط أزقّة الأسواق العتيقة لتونس العاصمة فيجد نفسه مجبرا على الاختباء في غرفة مومس بماخور المدينة. تزداد الوضعيّة تعقيدا و طرافة بدخول زبون إلى الغرفة ما يضطرّه إلى الاختباء تحت السرير غير قادر إلّا على الانتظار.

هذا المفصل الاختياري، وشديد الدقة والذكاء من قبل المخرج، مكّن المتلقي من التنبّه إلى أكثر المواقف دقة وحساسية من قبل شخصيتي المومس والمتشدّد، وجعل الجمهور يعيش وضعية المتلصّص في حالة شديدة الغرابة وكثيرة الالتصاق بالفضاء الذي تدور فيه الأحداث.

التعاطي مع الشخصيتين كان في غاية الحرفية والذكاء، والابتعاد عن الكليشيهات الجاهزة والمتكرّرة، ما أكسبه أداء بعيدا عن النمطية والتسطيح، وجعله يرتقي إلى تفاصيل النفس البشرية وانفعالاتها البعيدة عن المتوقع والمنتظر والمكرّر.

أدّى غازي الزغباني ونادية بوستة ومحمد حسين قريع، شخصيات المسرحية بمنتهى الإدهاش الممزوج بالواقعية والبعد عن المبالغات أو تقصّد الإثارة والإضحاك فكان عملا يستحق أن تخلده السينما، على عكس المسرح الذي صُنع كي يموت عند نهاية كل عرض.

هذه الحكاية المبنية على ثنائية المقدس والمدنس، من خلال شخصيتين تبدوان في الظاهر شديدتي التناقض، لكنهما في الداخل تقتربان من بعضهما إلى حدّ التماهي، تصلح لأن تكون موضوع سينما بامتياز، ذلك أن الأخيرة مبنية ومؤسسة على جملة أسئلة وجودية كبرى عبر التفاصيل.. وما أدراك ما التفاصيل.

إعادة تقديم الأعمال المسرحية أو السينمائية في مسلسلات تعتبر إفلاسا فكريا لدى كتاب الدراما واستغلالا لنجاح تلك الأعمال من قبل المنتجين

هذا العمل المسرحي الناجح، والذي حقّق المعادلة الصعبة بين فرجة جماهيرية وأخرى نخبوية، يستحق أن يتحوّل إلى فيلم سينمائي دون الخوف عليه من مخاطر المجازفة في الانتقال من الفن الرابع إلى السابع في سلاسة وحسن استقبال من كلا الجمهورين، ذلك أن الجمهور يكاد يكون واحدا، ثم إن المسرح في هذه الحالة لن يقدّم تنازلات كما دأب أن يقدّمها للتلفزيون بل سيفتح لنفسه دروبا وعرة تصل إليها كاميرا التصوير قبل عيني المتفرّج.

وكما قال مدير دورة مهرجان قرطاج السينمائي، المخرج رضا الباهي، صاحب “عتبات ممنوعة” و”صندوق عجب”، إن “السينما خلاّقة حيوات وحافظة ذكريات وولاّدة أمل، لذلك فلا يأس مع السينما ولا معنى لها مع اليأس”، هي السينما التي قاومت النسيان وقاومت الظلم وقاومت التهميش وها هي اليوم تقاوم الوباء وتبثّ التفاؤل في ثنايا بلد أنهكه السياسيون بشطحاتهم.

ومسرحية “الهربة” التي نالت جائزة نقابة الصحافيين لحرية الرأي في الدورة الماضية لأيام قرطاج المسرحية، تطمح اليوم – وهي شريط سينمائي – إلى نيل جائزة، افتراضية على الأقل، في أيام قرطاج السينمائية، بعد أن قالت عنها اللجنة التي منحتها الجائزة بأنها مسرحية جريئة “كشفت التشوّهات داخلنا وحاولت تعرية كلّ الأقنعة التي نخفيها ودافعت عن حرية الاختلاف وحرية التعبير، كما دافعت عن هويّة الجسد ودعت إلى الحوار مع الآخر المختلف عنّا”. مختتمة بقولها “الحوار وحده يقدر على تفتيت كلّ المطبّات والعوائق، والحوار نداء إنساني بامتياز، كما يقول العمل”.

معضلة التمطيط

"سجن النساء" انتقال متعثّر من الخشبة إلى الشاشة الصغيرة
"سجن النساء" انتقال متعثّر من الخشبة إلى الشاشة الصغيرة

تحويل أعمال مسرحية ناجحة إلى أفلام سينمائية رغم ما تحمله من مغامرة على مستوى تقنية الكتابة والتقطيع المشهدي وكذلك الأداء التمثيلي والإخراج، يعدّ أمرا “محمودا” بما أنه يراوح بين جنينين فنيين مختلفين، غير أنهما يتنافسان في الجودة وسحر الأداء. لكن تحويل مسرحية أو فيلم سينمائي إلى مسلسل تلفزيوني يعدّ في نظر بعض النقاد نوعا من الفقر والإفلاس رغم قبول بعضهم بالأمر سعيا وراء الشهرة وكثرة الانتشار كما فعلت الكاتبة المصرية الراحلة فتحية العسال، التي حوّلت مسرحيتها “سجن النساء” إلى مسلسل تلفزيوني من بطولة نيللي كريم ودرة وروبي وآخرين.

ويرى البعض أن إعادة تقديم الأعمال المسرحية أو السينمائية في مسلسلات تعتبر إفلاسا فكريا لدى كتاب الدراما واستغلالا لنجاح تلك الأعمال من قبل المنتجين، مؤكّدين أن هذه التجربة نجحت في عدد قليل من الأعمال.

وفي هذا الصدد، يقول الكاتب المصري بشير الديك “إن هذا الاتجاه يعتبر إفلاسا فكريا واستغلالا لنجاح عمل ونقصا في الموضوعات، رغم أن مصر بها العديد من الموضوعات والقضايا التي تصلح كمواد درامية ومعظم هذه الأعمال يتنبأ لها بالفشل، وهذا الاقتباس من القديم يؤكّد عدم رؤية الواقع المعاصر، وقد تكون هذه الأعمال عرضة للمط والتطويل للشخصيات والأحداث”.

وبدوره يؤكّد المخرج المصري مجدي أحمد علي، أن هذا الاتجاه يعبّر عن إفلاس و”يعني أننا لا نجد موضوعات لنقدّمها، لذلك نبحث في الدفاتر القديمة عن الأعمال التي سبق وأن نجحت لنستغلها وهذا يعبّر عن استهلاكية بشعة، حيث نقبل بأي مادة قديمة لتقديمها”.

وأغلب الظن أن معظم الأعمال المسرحية الشهيرة تتجه نحو الإنجاز السينمائي لاعتبارات تقنية وموضوعية وإنتاجية، كما أن الفارق لم يعد شاسعا من الناحية الموضوعية بين السينما والتلفزيون.. فهل أصبحنا ندير ظهورنا – وبخجل شديد – نحو المسرح؟

16