أفغانيات يطردن الخوف متحدّيات بطش طالبان

ناشطات يرفضن تحرك عقارب الساعة بعيدا عن حرية النساء.
الأربعاء 2022/02/16
خطوات إلى الأمام

وحدهن الأفغانيات يعرفن حجم ما سيخسرن جراء سطوة طالبان على الحكم، وهي الحركة التي ضيقت الخناق على حريتهن وحرمتهن من العمل والدراسة وحكمت عليهن بالعيش تحت إمرة الرجال متخفّيات ببرقع ومنعتهن من التحرك والسفر في غياب محرم، هن اليوم يكافحن رغم المخاطر كي لا يعدن إلى ذلك الزمن المظلم من حياتهن.

كابول - بحذر وبخطى سريعة، تدخل مجموعة من النساء الواحدة تلو الأخرى إلى شقة صغيرة في كابول للتحضير سرا لنشاط مقبل. وبرغم معرفتهن أنهن يعرضن حياتهنّ للخطر، لكنهن يعتقدن أن مقاومتهنّ لحركة طالبان تستحق المخاطرة.

في البداية، لم يكن عددهن يتخطى 15، لكنهن بتن اليوم بضع عشرات يرفضن عودة عقارب الساعة إلى الوراء بينهن عاملات سابقات في منظمات غير حكومية وطالبات ومعلمات وحتى ربات منازل.

وتخطط الناشطات لتظاهرات مناهضة لطالبان حينا، أو لرسم غرافيتي في الشارع يطالب بـ"الحرية" التي تقلصت مع عودة الحركة إلى السلطة في منتصف أغسطس حينا آخر.

يعرفن جيدا مخاطر نشاطهن، وقد بدا ذلك واضحاً بعد اختفاء اثنتين من رفيقاتهن قبل أكثر من أسبوعين إثر ما وصفنه بمداهمات ليلية لمنازلهن. وخلال الأشهر الماضية، قلة فقط شاركن في التظاهرات العلنية خشية التعرض لتهديدات أو للاعتقال.

وتقول شابة عشرينية طلبت عدم الكشف عن اسمها “قلت لنفسي لمَ لا أكون واحدة منهنّ بدل أن أجلس في المنزل وأفكر في الأمور التي خسرناها؟"، مضيفة "الأفضل أن أقف وأقاتل من أجل حقوقي، حقوق أمي وشقيقاتي".

وحكمت طالبان أفغانستان بين عامي 1996 و2001 قبل أن يطيح بها غزو أميركي. وقمعت خلال فترة حكمها الحريات وحجبت الحداثة عن البلاد. وأكثر من عانى في حينها هنّ النساء اللواتي مُنعن من ارتياد المدارس والجامعات، ومن مزاولة العمل، ومن الخروج وحدهن إلى الشارع، كما أُجبرن على ارتداء البرقع.

لكن في العقدين الأخيرين، وبرغم مواجهتهن الدائمة لمجتمع محافظ وذكوري إلى حدّ كبير، تمتعت الأفغانيات بمساحة حرية أوسع، وبات في وسعهنّ العمل والدراسة واختيار اللباس، ووصل بعضهن إلى مناصب في الدولة.

وفي الخامس عشر من أغسطس عادت حركة طالبان إلى الحكم بعدما دحرت القوات الحكومية على الأرض بالتزامن مع انسحاب القوات الأجنبية من البلاد.

وخلال الأشهر الماضية فرضت الحركة قيودا على حريات النساء، منها الفصل بين الجنسين في مكان العمل ما أعاق عودة كثيرات إلى عملهنّ، ومُنعت النساء من الخروج في رحلات طويلة من دون محرم، ووُزّعت لافتات تشجّع على ارتداء البرقع أو النقاب.

وتلاحقُ ذكريات حكم طالبان الأول شالا (44 عاماً)، الموظفة الحكومية السابقة والوالدة لأربعة أطفال. وفي فترة التسعينات لجأت شالا مع عائلتها إلى باكستان بعدما تقدّم أحد مقاتلي طالبان بطلب الزواج منها، ولم تعد إلى بلدها إلا بعد سقوط الحركة. وتقول "أكثر ما أخشاه اليوم هو أن أرى الفتيات قابعات في المنزل مجددا".

وبرغم تهديدات تلقتها من طالبان، على حد قولها، تحاول اليوم أن تُشارك في كل تظاهرة، تحضر الاجتماعات وتخرج سرا لرسم الغرافيتي مثل "تحيا المساواة" على جدران كابول.

وتضيف "كل ما أريده هو أكون مثالاً لشابات يافعات بأنني لن أتخلى عن النضال". وتلقت شالا تهديدات بإيذاء عائلتها، لكنها تقول إن زوجها يدعمها حتى أن أطفالها باتوا يرددون هتافات تطالب بالتعليم داخل المنزل.

درب التحدي

تعبيرات مختلفة
تعبيرات مختلفة 

نظمت الناشطات اجتماعين في يناير، الأول شاركت فيه نحو 40 امرأة، والثاني بضع نساء فقط كنّ يحضّرن لافتات لتظاهرة. وخلال اللقاء الثاني، وأثناء كتابتها للافتة تطالب بالعدالة واحترام الحقوق، أمسكت ناشطة هاتفها الخليوي بيد وأقلامها باليد الأخرى، وقالت “هذه فقط أسلحتنا”.

وتقول شابة أخرى في الـ24 من العمر بتحدّ “الأمر خطير لكن ليست هناك أي وسيلة أخرى، علينا أن نقبل أن الطريق الذي سلكناه مليء بالتحديات”. وتحدّت الشابة على غرار العديد من النساء عائلتها المحافظة وعمّها الذي كان يرمي الكتب لكي يمنعها من التعليم.

ناشطات بينهن عاملات سابقات وطالبات ومعلمات وحتى ربات منازل يعتقدن أن مقاومتهنّ لحركة طالبان تستحق المخاطرة

وتقول “لا أريد أن أدع الخوف يسيطر علينا ويمنعني من الكلام ويبعدني عن قول الحقيقة”. وغادر كثيرون البلاد، لاسيما من الناشطين، بعد وصول طالبان إلى السلطة خوفا من التعرض إليهم. وتقول شابة أخرى فضلت عدم الكشف عن اسمها “حتى إذا غادر نصف سكان البلاد، فإن النصف الثاني باق فيها”.

وخلال الأشهر الماضية وضعت الشابات أطرا سرية للعمل، وشكّلن مجموعات صغيرة تضمّ كل واحدة عشر ناشطات فقط على تطبيق واتساب للتنسيق والتحضير لاجتماعات وتظاهرات. وحين يتفقن على التوقيت والمكان، يرسلن قبل وقت قصير فقط التفاصيل لمجموعة أخرى تضم عدداً أكبر من النساء.

وليس الدخول إلى مجموعات “التخطيط” على واتساب بالأمر السهل، إذ تخشى الناشطات أن يتسلل “مخبر” إلى صفوفهنّ.

ومن أجل التأكد مما إذا كان بإمكانهن الوثوق بنساء جديدات، يتقرّبن من الناشطات المعارضات، تُخضعهن هدى خاموش (26 عاماً) لاختبارات، فتطلب مثلاً منهن تحضير لافتات وشعارات في غضون ساعتين، وإن شعرت أنهن قمن بعملهنّ سريعا وبإتقان، تقبل بهن في المجموعة الكبيرة.

وحصل يوماً أن أَبلغت إحداهن بموعد غير صحيح لتظاهرة، واكتشفت أن عناصر طالبان حضروا إلى المكان قبل موعد التظاهرة فقطعت علاقتها بها.

تخطيط محكم

كفاح منظم
كفاح منظم

للتظاهرات رقم هاتف محدد يتم فتحه فقط للتنسيق مع الإعلام والمشاركات خلال يوم التظاهرة ويُغلق لاحقاً حرصاً على ألا يتم تتبعه. وتوضح هدى التي غيّرت رقم هاتفها مرات عدة جراء تلقيها وزوجها لتهديدات “نأخذ معنا عادة لباسا أو حجابا إضافيا. وبعد التظاهرة نغيّر ثيابنا (..) لكي لا يتم التعرف علينا”.

وتقرّ أن تلك الإجراءات “قد لا تكون كافية، وقد نتعرض للأذى، الأمر متعب (..) لكن لا يسعنا سوى أن نتحمل”. ومنعت طالبان التظاهرات المناهضة لها، ولم يتردد مقاتلوها في استخدام القوة في مواجهة أعداد محدودة من الناشطات الثائرات.

لكن هدى وأفغانيات أخريات بقين مصممات على الخروج إلى الشارع وإن بأعداد محدودة للمطالبة بـ”الحرية والعدالة والتعليم والعمل”. وتروي امرأة أنها خلال إحدى التظاهرات صفعت مقاتلاً على وجهه، كما قادت أخرى الهتاف غير آبهة بمسلح ملثم يخزها ببندقيته من الخلف، ولم تتردد ثالثة في ضرب مقاتل رفع سلاحه في وجهها.

طالبان تفرض قيودا على النساء منها الفصل بين الجنسين في مكان العمل ومنع خروجهن في رحلات طويلة من دون محرم

وقبل التظاهرات لا تتجمع النساء مرة واحدة، بل يأتين في مجموعات صغيرة من اثنتين أو ثلاث، يتجولن قليلا، يقفن أمام المحال، وفي الساعة المحددة يلتقين ويبدأن مسيرتهن. وما هي إلا دقائق حتى يبدأ مقاتلو طالبان بالتجمع حولهنّ، يحاولون عرقلة طريقهن، يصرخون في وجوههن وحتى يوجهون أسلحتهن نحوهنّ.

وخلال التظاهرة الأخيرة في السادس عشر من يناير استخدم مقاتلو طالبان رذاذ الفلفل لتفريق نحو عشرين ناشطة قمن برش برقع أبيض باللون الأحمر تعبيراً عن رفضهنّ لارتدائه. وبعدها بأيام قليلة اتهمت ناشطات حركة طالبان باعتقال المتظاهرتين تمنى زريابي برياني وبروانة إبراهيم ضمن سلسلة مداهمات شنتها ليلا.

وقبل وقت قصير من اختفائها، انتشر شريط فيديو لتمنى على مواقع التواصل الاجتماعي تظهر فيه في حالة توتر، وتردد “الرجاء المساعدة، طالبان أتوا (..) شقيقاتي في المنزل”.

وتتوجه تمنى للحديث مع من يقف خلف الباب بالقول “إذا أردتم الحديث، يمكننا التكلم غدا. لا أستطيع أن أراكم خلال الليل بوجود فتيات، لا أريد، لا أريد (..) الرجاء المساعدة”.

ولم يعرف مكان الشابتين حتى الآن. وفي الرابع من فبراير أعربت الأمم المتحدة في أفغانستان عن قلقها إزاء اختفاء ناشطتين أخريين. وطلبت من طالبان الكشف عن مكان وجود النساء.

ودفع الخوف بأخريات إلى الاختباء وتغيير أرقام هواتفهنّ وأماكن سكنهنّ. ونفى المتحدث باسم حركة طالبان ذبيح الله مجاهد اعتقال أو احتجاز ناشطات، لكنه حذر أن لدى السلطات “الحق في اعتقال واحتجاز المعارضين وأولئك الذين يخترقون القانون”.

جيل تطبيقات الإنترنت

ثمن الحرية باهظ
ثمن الحرية باهظ

تطوّر النساء يوما بعد يوم أساليبهن. في البداية كانت التظاهرة تنتهي بمجرد تعرض إحداهن لاعتداء. أما اليوم تقول هدى “بتنا نوكل اثنتين منا بالاهتمام بالمعتدى عليها، فيما تكمل الأخريات الاحتجاج”.

ولمعرفتهنّ أن طالبان لن تسمح لصحافيين بتغطية تحركهنّ، تستخدم النساء هواتف ذات نوعية جيدة لالتقاط الصور والفيديو ونشرها لاحقا على وسائل التواصل الاجتماعي.

وترى هيذر بار من منظمة هيومن رايتس ووتش أن “الكثير من الناشطات والخبيرات اللواتي عملن في أفغانستان لسنوات عدة غادرن البلاد بعد الخامس عشر من أغسطس، لكنهن يتابعن عملهن من المنفى”.

لمعرفتهنّ بأن طالبان لن تسمح لصحافيين بتغطية تحركهنّ، تستخدم النساء هواتف لالتقاط الصور ونشرها لاحقا على وسائل التواصل الاجتماعي

وعن النساء اللواتي يخرجن للتظاهر في أفغانستان، تقول “أعتقد أنهن لا يزلن يحاولن تلمس الطريق (..) يخرجن إلى الشارع برغم معرفتهنّ أنهن سيتعرضن للأذى، يظهرن وجوههن على التلفزيون، فيما حركة طالبان حولهن لا تتحمل المعارضة، بل تلاحق المتظاهرات والمنظِّمات، تهددهن وترهبهن”. وتضيف “إنه جيل من النساء الشابات (..) ليس هناك من يتعلمن منه، فبتن مضطرات للابتكار وحدهنّ”.

عندما يتعذر عليهن التظاهر تفتّش النساء عن حلول بديلة مثل التجمع لإضاءة شموع ورفع لافتات في منزل والتقاط صور ونشرها. وتجد وحيدة عامري (33 عاما) التي تنتمي إلى مجموعة نسائية صغيرة أن النساء يحتجن إلى المزيد من التأني في مواجهة حركة طالبان.

وتقول “تظاهرنا في البداية، لكنهم استخدموا العنف ضدنا (..) وحين شعرنا أنه لا يمكننا أن نرفع صوتنا في الشارع، كان علينا أن نغير طريقتنا في الاحتجاج”. وبين الفينة والأخرى، تحدد مع مجموعة صغيرة من رفيقاتها منزلاً يلتقطن فيه صورا ويرفعن شعارات تطالب بالحق في التعليم والعمل.

وتقول “باتت تظاهراتنا سرية، نشاركها على وسائل التواصل الاجتماعي، نكتب المقالات ونحضر جلسات حوار على تطبيق كلوب هاوس أو موقع تويتر”. لكن عامري لا تخفي خوفها، حيث تؤكد “قلبي وجسدي يرتجفان حين أخرج إلى الشارع”.

إلى الأمام

نظرة راسخة
نظرة راسخة تجاه طالبان لا تتغيّر  

كانت هدى تحلم بالعمل في الشأن السياسي في أفغانستان، لكن كل ما يتاح لها اليوم هو تنظيم التظاهرات سراً والحرص قدر المستطاع على ألا تقع ورفيقاتها في أيدي طالبان.

وتقول “كنت في الماضي إذا سألني أحدهم ماذا تريدين أن تصبحي في المستقبل، أجيب أنني أريد أن أكون رئيسة للبلاد”. وتضيف “إن لم نقف اليوم دفاعاً عن مستقبلنا فإن تاريخ أفغانستان سيعيد نفسه (..) وإن لم نطالب بحقوقنا سينتهي بنا الأمر في المنزل بين أربعة جدران، وهذا لا يمكن أن نتحمله”.

وتضيف “تاريخ أفغانستان تغير اليوم، ولا يمكن العودة إلى الخلف وأن نخسر إنجازاتنا”. ويبقى السؤال بالنسبة إلى كثيرين ما إذا كانت تلك التحركات ستؤدي إلى نتيجة.

وتقول بار “أعتقد أن ما يحصل معبر جداً، وما تفعله النساء لديه تأثير كبير فعلاً لأن صورهن تجذب انتباه العالم أكثر من أي شيء آخر في أفغانستان (..) هنالك شيء ساحر في مجموعة من النساء تسير وتهتف ضد طالبان”.

وترى عامري أن التظاهر ضد البرقع الذي يحترمه جزء كبير من المجتمع ليس الأولوية الآن “بل هناك أمور أخرى علينا حلها قبل ذلك، فنحن ممنوعات من المدارس، والجامعات مغلقة، لقد أزالونا من المجتمع ومن السياسة”.

وتضيف بواقعية شديدة “قد لا ننجح (..) كل ما نريده هو أن نبقي صوت العدالة عالياً، وبدلاً من خمس نساء فقط، أن تنضم إلينا الآلاف”.

18