"أعيش مع شبح" رواية تبحث في اغتراب الذات عن محيطها

النمساوية لورا فرويدنتالر تفكر في ما يمكن أن تفعله المرأة لمواجهة الخيانة الزوجية.
الاثنين 2022/10/24
كلنا غرباء عن بعضنا البعض (لوحة للفنان وليد نظامي)

تبدو بعض الأسئلة التي تخص حياتنا اليومية والروتينية بديهية، ورغم اختلاف إجاباتنا عنها إلا أنها يمكن أن تكون مادة ثرية خصبة لكتابة رواية محكمة العناصر، تكشف لحظات الاغتراب التي قد يشعر بها المرء لمجرد اكتشافه سلوكيات وحقائق عن أفراد محيطه، وتسرد لنا ما يمكن أن نراه ونسمعه أو نعيشه يوميا بالكثير من الفانتازيا والإثارة.

عندما تشكي في أن زوجكِ على علاقة بامرأة أصغر سنا، ماذا تفعلين؟ أو، كيف تتصرفين؟ وكيف يتحول كل شيء، وموقف، وكلمة إلى تأكيد لما تظنينه؛ أم أن كل شيء مجرد خيال وألاعيب يمارسها عقلك عليكِ؟ وماذا تفعلين عندما تبدئين برؤية شبح تلك المرأة التي يعرفها زوجكِ في كل مكان حولك؟ كيف ستتعاملين معها؟

تأتي هذه الرواية “أعيش مع شبح” للكاتبة النمساوية لورا فرويدنتالر والتي ترجمتها رضوى إمام، لتتغلغل بلغة مكثفة وحميمة في اغتراب الذات التدريجي عن محيطها، هذا الاغتراب الذي ربما اختبره الكثير منا بالفعل، حيث نرى تجسيدا حيا لتأثيرات هذا الاغتراب في بطلة الرواية متمثلا في مشاكل الصحة العقلية، وكيف يمكن لهاجس أو رد فعل معين أن يقلب حياة شخص ما رأسا على عقب. نرى كذلك كيف يمكن لفاتورة مطعم، أو مكالمة تليفونية وضحكة أو ساعة تأخرها الزوج أو ربما كلمة لم يقلها وتظل معلقة بينهما أن تؤدي إلى انهيار تدريجي بداخل الزوجة، وإلى بداية نوع من الشك يتنامى ويتعاظم في العقل ثم ينتشر خارج حدوده ليحتوي كل شيء في حياتها.. حتى الشك في نفسها.

الشخصية الرئيسية في الرواية الصادرة عن دار العربي “أنَّا” عازفة ومعلمة بيانو تبلغ من العمر خمسين عاما، تتخيل زوجها كاتب السيناريو النمساوي توماس على علاقة غرامية مع امرأة أصغر سنا. لا نعرف ما إذا كان هذا صحيحا أم لا، هل “الفتاة” ـ كما تسميها ـ موجودة حقا، أم أنها مجرد خيال؟ هل “أنَّا” مجنونة أم امرأة وحيدة فقط؟ أم أن هناك حقا شيئا كامنا في خلفية حياتها وعلاقتها بزوجها؟

الرواية تذهب إلى نوع من «قصص الأشباح» عندما تبدأ أنَّا في سماع «الفتاة»، لتصبح جزءا من حياتها
الرواية تذهب إلى نوع من «قصص الأشباح» عندما تبدأ أنَّا في سماع "الفتاة"، لتصبح جزءا من حياتها

يقع منزل أنَّا وتوماس الذي يتشاركانه منذ عشرين عاما في مكان هادئ بجوار بحيرة، سمح لهما بالصفاء الذهني والروحي وإقامة علاقة متميزة، وقد انعكس ذلك على عمق ذكرياتهما ومعرفتهما ببعضهما البعض، حتى ليعرفا كيفية قراءة إشارات بعضهما البعض. الآن أصبحت أنَّا غير مرتاحة في هذا المنزل مع تزايد سفر توماس وغيابه المتكرر. لطالما اشتبهت في أنه على علاقة غرامية. الآن “الفتاة”/ “الشبح” تظهر لها كشبح هائج هامس أينما ذهبت.

لقد بدأت الأرضية التي تتحرك عليها أنَّا في الاهتزاز يوما بعد الآخر، فما أن حصلت على ما يسمى بالتفرغ لكي تنتهي من كتابة كتاب مدرسي في الموسيقى وتكرس نفسها لعزف البيانو، بدأت تفقد السيطرة على يديها على لوحة مفاتيح البيانو كما لو كانت أصابعها كائنات مستقلة.

هل علاقة حب توماس و”الفتاة” مجرد خيال في عقل آنّا؟.. تمشي أنَّا مشوشة في شوارع حيها كما لو كانت في مدينة غير مألوفة. يصبح المنزل غريبا عنها مثله مثل شريكها توماس. فعلى الرغم من أنها تبدو وكأنها تعاني من اغتراب توماس، إلا أنها هي من تقابله بلامبالاة بل تتراجع إلى عالمها الخاص، ويصبح الأمر مخيفا بشكل متزايد. لكنها مع ذلك مقتنعة بأن توماس على علاقة حب مع امرأة شابة، لذا فإنها تبحث في جيوب بدلاته في الليل للعثور على دليل على خيانته. تخلق قصة حقيقية عن حياته الغرامية الموازية.

تذهب الرواية إلى نوع من “قصص الأشباح” المخيفة عندما تبدأ أنَّا في سماع “الفتاة”، وتراها تتجول في المنزل، لتصبح جزءا لا يتجزأ من حياتها اليومية وسردها. والروائية ـ هنا ـ لا تحل القصة وتبقي نهايتها مفتوحة، في ظل عدم وضوح الخط الفاصل بين الواقع والأوهام. حتى الصفحة الأخيرة، يبقى القارئ مترددا بشأن أين ينتهي ذلك ويبدأ هذا، حيث المنطقة الرمادية بين الواقع والخيال.

ويذكر أن لورا فرويدنتالر كاتبة من النمسا، وُلدت عام 1984. درست اللغة والأدب الألماني. نُشرت لها مجموعة قصصية تحت عنوان “جمجمة مادلين” عام 2014، ثم صدرت لها رواياتان، وهما “الملكة صامتة” والتي حصلت عام 2018 على جائزة “بريمن” الأدبية، وهذه الرواية “أعيش مع شبح”، حصلت على جائزة الاتحاد الأوروبي في الأدب عام 2019. كما ترشحت للقائمة القصيرة بجائزة “النص واللغة في الدائرة الثقافية الألمانية”، والقائمة القصيرة لجائزة “ألفا” الأدبية عام 2019.

مقتطف من الرواية

ماذا يمكن أن تفعله المرأة

نامت أنَّا على جنبها، وكان رأسها يستقر على الوسادة، تماما مثلما اعتادت النوم في سريرها وهي طفلة. آنذاك، كان يوجد جدارٌ فاصلٌ بين غُرفتها والمطبخ، حيث اعتاد أبواها الجلوس أثناء احتساء القهوة. لطالما راق لها أن تسمع صوتهما في الصباح؛ صوت والدتها المتقطع، وصوت والدها الأجشَّ. اعتادت أمها أن تجلس ملامسة للحائط، مُتَّكئة عليه بكتفها وذراعها. فإن لم يكن ذلك الجدار موجودًا، وتحركت “أنَّا” خطوة صغيرة تجاههما، لجلست بينهما أمام المائدة.

طَوَت “أنَّا” ساقيها تحت الغطاء، ثم رفعتهما إلى أعلى أمام بطنها، حيث الدفء. سمعت صوت توماس يتحدث بالتليفون. حاولت أن تخلد إلى النوم مرَّة أخرى، ولكنها سمعت ضحكات زوجها، ففتَّحت عينيها. لا يوجد أي اختلاف بين جدار حجرتها هذه، وجدار المطبخ في بيت طفولتها. فهي تستطيع أن تسمع الأصوات من خلالهما، ولكن يصعب عليها فهم الكلمات. بعد صمت دام بُرهة قصيرة، عاود توماس حديثه بالتليفون، ثم أنهى المكالمة، هذا ما استنتجته أنَّا من نغمة صوته. نظرت إلى المنضدة الصغيرة بجوار السرير، ووجدت عليها بعض المجلات وأقراص المغنسيوم، ثم خرجت من غُرفتها إلى مدخل البيت، لتجده وهو يأخذ مفاتيحه. قال لها في عُجالة:

أراكِ مساء.

نظرت إليه من فتحة الباب، فابتسم لها، ثم رحل. كان يرتدي معطف المطر وحذاءً رياضيّا.

اعتادت أنَّا الوحدة، حتى في صباح إجازة نهاية الأسبوع. أخذت الصحيفة التي وضعها توماس عند مدخل البيت، وجلست أمام مائدة المطبخ. تذكَّرت المرَّة الأخيرة التي تناولا فيها الإفطار معا. ففي ذلك الصباح، طلب منها توماس أن تأكل شيئا، وسألها ما إذا كانت ترغب في تناول ساندويتش مربى. وحينها، أومأت برأسها، على الرغم من أنها لا تأكل ساندويتشات المربى أبدا. في تلك اللحظة، تأكدت من وجود امرأة أخرى في حياته.

عندما انتابها ذلك الشعور للمرَّة الأولى، فقدت شهيتها لفترة. كانا يجلسان معا في هذا المطبخ، وكان توجد حينها مائدة أخرى غير هذه. ترك توماس شوكته، واقترب منها كي يجلس بجوارها. أخذ بشوكتها بعض الخضار، ووضعه أمام شفتيها، ثم رفع ذراعه الأخرى وشعرت بمُلامسته لها خلف رقبتها، لكنه سرعان ما ترك الشوكة، بل وترك المنزل أيضا. لم تسترجع أنَّا شهيتها، إلا عندما تأكدت من خروج تلك المرأة من حياة زوجها. أما توماس فلم يفهم أبدا كيف استطاعت زوجته أن تكشف كذبه، فلم يدرك أن اهتمامه بغذائها إشارة كافية لخيانته.

وقفت أنَّا وأخذت كوب الزبادي من الثلاجة، ومزجته برقائق الشوفان وبذر الكتان في صحن عميق. وعندما جلست مرَّة أخرى، أشعلت المصباح الأرضي في الزاوية. كان صباحا ضبابيّا. وكان صوت الأمطار يُدوِّي في الفناء الداخلي؛ رنين متقطع، وكأن الأمطار تساقطت على قطعة من الصفيح، إلى أن امتزجت بالضوضاء في الخارج.

 

13