أطلال مكتريس تؤرخ لتعاقب الحضارات في تونس

تعلمنا كتب التاريخ الكثير عن الزمن الماضي بما فيه من انتكاسات وإنجازات سياسية وعمرانية، لكن الآثار الشامخة في منطقة ما كما في مدينة مكتريس التونسية تجعلنا نصدق أن مختلف الحضارات القديمة مرت بهذه المنطقة.
تونس ـ على بعد 160 كلم جنوب غرب العاصمة تونس، تنتصب آثار مدينة مكثر، أو كما كان يسميها الرومان مكتريس، شاهدة على تعاقب الحضارات القديمة.
واسم مكتريس يعود في العهد الروماني إلى التسمية الأصلية للمدينة “م ك ت رم”، التي ترجع إلى العهد النوميدي (ما قبل الاحتلال الروماني بداية من 146 قبل الميلاد)، وشُيدت مكتريس على حافة هضبة ارتفاعها ألف متر.
قال أستاذ التاريخ في الجامعة التونسية لطفي نداري إن “مدينة مكثر نوميدية الأصل (السكان الأصليون لتونس) والعديد من النقوش التي عُثر عليها في الموقع الأثري مكتوبة باللغة اللوبية (لغة نوميديا) والبونية الجديدة (لغة قرطاج تواصلت بعد الاحتلال الروماني)، وهو ما يثبت أن المدينة موجودة قبل الغزو الروماني لشمال أفريقيا عام 146 ق.م”.
وأضاف أن “مكثر دخلت بداية من عام 46 ق.م تحت سيطرة روما بعد انتصار يوليوس قيصر على الملك النوميدي يوبا الأول وافتكاك كامل أراضي الملوك النوميديين لصالح روما”.
وتابع نداري أن “مكثر دخلت ضمن مدن مقاطعة أفريكا الجديدة، وهي الأراضي التي ضمها يوليوس قيصر بعد انتصاره”.
وأضاف “ستبقى مكثر بعد هذا التاريخ مدينة أجنبية عن القانون الروماني، فهي ذات مؤسسات سياسية مدنية أجنبية لا تتوافق مع مؤسسات الإدارة الرومانية. وصُنفت مدينة أهال عليها دفع الضرائب لروما”.
وقال نداري إن “المدينة بقيت على هذا الوضع حتى غيرت روما سياستها تجاه مدن الأهالي في مقاطعاتها بداية من عام 100 م، حيث أصبحت هناك سياسة جديدة تعتمد على الارتقاء القانوني للمدن الأجنبية (المدن الخاضعة لروما) لتصبح مستوطنات شرفية، وهي أعلى مرتبة قانونية للمدن الرومانية”.
وأضاف “بحسب النقوش التي عُثر عليها في موقع مكتريس الأثري، أصبحت المدينة مستوطنة شرفية في عهد الإمبراطور ماركوس أوريليوس (161 – 180 م)”.
وكي ترتقي المدن الرومانية، بحسب نداري، إلى مستوى المستوطنات الشرفية “تمر نظريا بمراحل وسطى، ومنها مرحلة البلدية. تحصلت مكتريس على مرتبة بلدية خلال حكم الإمبراطور أنطونينوس الورع (138 – 161 م)”.
فسر نداري ذلك “بأن جزءا من نقيشة لاتينية عُثر عليها بالموقع الأثري في مكثر تُكمل جزءا آخر لنفس النقيشة محفوظا الآن في متحف باردو، وهي تذكر سيرة أحد أعيان مدينة ألتيبيروس المجاورة، والذي يوصف بحامي بلدية مكثر”.
وأضاف “تعود سيرة هذه الشخصية إلى عهد الإمبراطور أنطونينوس الورع، وهو ما يعني أن مكثر تحصلت على مرتبة بلدية في عهد هذا الإمبراطور”.
وخلص نداري إلى أن “مكثر مرت بمسار ارتقاء عادي وفق القوانين الرومانية وبقيت إلى حدود 158 م مدينة أهال، لتصبح منذ هذا التاريخ بلدية، وفي عهد الإمبراطور ماركوس أوريليوس أصبحت مستوطنة شرفية، وهي أعلى مرتبة لمدينة رومانية”.
وعلى لوحة معلقة على إحدى بنايات الموقع الأثري لمكتريس كُتب التالي: “مقر الشبيبة هو عبارة عن مبنى يجتمع فيه أعضاء جمعية شبابية أو أكاديمية عسكرية”. وترجح اللوحة أن أول استخدام للمبنى كان في عهد الإمبراطور تينوس دوميتيانوس (81 – 96 م) ويرجع تاريخها إلى عام 88 م.
ويتكون المبنى من فناء محاط بالأعمدة وعدة غرف وحنية (تجويف نصف دائري مغطى بقبة نصف دائرية) تقع على طرف به ثلاثة بلاطات، ما يوحي بأن البناء أُعيد استخدامه ككنيسة.
وقال نداري إن “النقيشة التي عُثر عليها في معلم الشبيبة تعود تاريخيا إلى الإمبراطور تينوس دوميتيانوس وتذكر أن شباب مكثر ساهموا في بناء تلك البناية الرسمية الضخمة ‘بازيليك’ ومخزنين وتذكر أسماء هؤلاء الشباب فردا فردا وعددهم 65، وهناك أبحاث جديدة بصدد الإنجاز قد تكشف معلومات جديدة عن هؤلاء الشباب وطبيعتهم”.
في مكتريس يوجد أيضا قوسا نصر، وهما من أهم المعالم التي يمكن أن توجد في مدينة رومانية، وتفيد أبحاث تاريخية بأن أحدهما بُني عام 116 م في عهد الإمبراطور ترايانوس (98 – 117 م).
وقال نداري إن “قوس النصر هذا أُهدي للإمبراطور ترايانوس وكذلك الساحة العمومية التي يشرف عليها”. وتابع “كما يوجد في المدينة مسرح دائري مخصص للعروض العنيفة على عادة الرومان، وكذلك الحمامات التي يعود بعضها إلى نهاية القرن الثاني ميلاديا”.
ووفقا للوحة الموضوعة على معلم الحمامات الكبرى في الموقع الأثري لمكتريس أُقيمت الحمامات وعناصرها المعمارية على مساحة تزيد عن 4 آلاف و400 متر مربع، وتم بناء هذا المجمع الاستحمامي خلال حكم الإمبراطور سيبتيموس سيفيروس (193 – 211 م)، كما أردف نداري.
