أضع أحمر شفاه
“منيار ماذا تفعلين؟”، أجابت ابنة السنتين بسرعة “أضع أحمر شفاه بابا”، بقدر ما أثارت عباراتها العفوية موجة من الضحك، بقدر ما رسمت في ذهني صورة الفجوة العميقة بين الماضي والحاضر.
وأعادت إلى مخيلتي شريطا من ذكريات الصبا، لم أكن وإلى الآن مغرمة بالمساحيق لكنني أحب الكحل، وتنهرني أمي بشدة كلما وجدتني صباحا أمام المرآة أكتحل “انعدم الحياء، كنا في السابق نخجل من النظر في المرآة أمام آبائنا وأجدادنا، واليوم صرتن تضعن مساحيق التجميل دون غفر يا للعار”. فأبتسم وأقول لها “لا أظنني جئت شيئا مخجلا ولا عيبا لا يغتفر يا حسرة على زمانكن هذا زماننا”، ولكن اليوم عبارات ابنة أختي جعلتني أوقن أن عجلة الزمن فعلا لا تكف عن الدوران محدثة شروخا كبيرة بين الأجيال حتى صارت الفوارق في الأفكار والسلوكيات شاسعة.
ومع كل خطوة إلى الأمام يطمس الجيل الصاعد عادات وتقاليد أجداده باسم الانفتاح والتحضّر، حتى صار من العسير جدا إعادة تشكيل شبكة العلاقات الأسرية والمجتمعية وفق منهج الأجداد والآباء والأمهات، ولكن من المسؤول عن هذا التغيير، هل هي العائلة بوصفها الخلية الأساسية لتكوين أي مجتمع أم وسائل الاتصالات الحديثة؟
حقيقة الأمر لا تستدعي الكثير من التفكير فالإجابة جاءتني على طبق من فضة بمجرد تركيزي قليلا على نوعية الصور المتحركة التي تمررها القنوات التلفزية الموجهة للطفل، إذ يكفي أنني التقطت اسم أحد هذه الأفلام الكرتونية “القناص” هذه العبارة لم يسمعها جيلي إلا عند اندلاع ثورة الياسمين التي ثار خلالها التونسيون بمختلف شرائحهم العمرية دفاعا عن الكرامة والحرية في ظل نظام دكتاتوري، لأفهم السر، فالعبارة كانت دخيلة ومرعبة وتزامنت مع حدث لم يكن سهلا على أي طرف من الدولة صغيرا كان أو كبيرا، فلماذا تكون مادة إعلامية ترافقها مشاهد دموية يشاهدها طفل لا يزال غضا جدا؟ ألا تكفيه مشاهد الدمار والحرب التي صارت توسم العالم اليوم؟
وبعيدا عن سفك الدماء وصوت فرقعة سلاح المواد الإعلانية التي تفصل بين مشاهد الأفلام الكرتونية لم تكن صورا ترويجية لمنتوجات مستلهمة من عالم الطفل ومرهقة لجيب العائلة، بل فقرات توزع بالمجان دروسا حول كيفية وضع مساحيق للدمى أو خلط الألوان للحصول على صبغات بألوان مختلفة أو كيف تعد مثلجات ومأكولات أو أزياء، وهو ما لفت انتباهي إلى أن الشاشة الصغيرة قطعت الطريق على عالم الطفولة وما يتبعه من براءة وعفوية وساهمت بشكل كبير في حرق المراحل والانتقال بالناشئة إلى عالم الكبار.
ولعل ما زاد الأمر تعقيدا انتشار الهواتف الذكية والمواقع الاجتماعية، وهو ما يرسم صورة الفتاة الصغيرة التي كنتها يوما من الأيام أضع على كتفي حقيبة يد أمي وانتعل حذاء خالتي ذا الكعب وألطخ فمي بأحمر شفاه أشبه بوقوعي في صحن الصلصة، لكن بصورة حديثة لفتاة اليوم التي تعتني بهندامها أكثر من ترتيب ألعابها.
كاتبة تونسية