أزمة مياه الشرب في البصرة.. الحلول ممكنة والإرادة غائبة

يواجه العراقيون أخطارا لا تقل أهمية عن أخطار الحروب التي شهدتها البلاد في السنوات الأخيرة، وتفتك بهم أسلحة قاتلة لا تقل خطورة عن قصف الطائرات وسيارات داعش المفخخة. القاتل الجديد للعراقيين في المرحلة القادمة هو الوضع البيئي المتدهور على كل الأصعدة،.
يتجلى هذا الخطر في أوضح صوره في محافظة البصرة، التي تعتمد، في الغالب على مياه شط العرب لتغذية مشاريع الإسالة، إلا أن نسبة الأملاح الذائبة في المياه بلغت مؤخرا 7500 تي.دي.أس، بحسب وزارة الموارد المائية، في حين تقول منظمة الصحة العالمية، إن النسبة تصبح غير مقبولة في حال تجاوزت 1200 تي.دي.أس.
وملوحة المياه، هي واحدة من أزمات بيئية عديدة تواجهها البصرة كالجفاف وتلوث التربة، بل تظهر صور تناقلها ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، أن المياه في بعض المناطق اختلطت بالنفط.
وفي محاولة لتقديم قراءة متخصصة وعلمية للأزمة تواصلت “العرب” مع متخصصين في مجال تصفية وتحلية المياه، كما اطلعت “العرب” على دراسات تفصيلية حول الأزمة في البصرة، أعدتها شركة رائدة في الشرق الأوسط في مجال معالجة المياه، بمساعدة فريق بحثي عراقي متخصص. وقدم الجميع حلولا عملية تحقيقها يبدو ممكنا، شرط توفر البيئة السياسية الملائمة، وهو ما يفتقده العراق منذ سنوات.
يشير الخبراء إلى أن تصفية وتحلية المياه في البصرة، وسواها من مدن العالم، تحتاج إلى جهد هندسي عالي النوعية، وخبرة دقيقة للتمكن من توفير مياه للشرب تتوافق مع ضوابط منظمة الصحة العالمية. وتستمد تجربة البصرة، والعراق عموما، خصوصيتها من نوعية المياه التي يعد مصدرها الرئيسي الأنهار.
ما هي مظاهر الأزمة وأسبابها؟

حسب الدراسات، فإن نسبة الملوحة في مياه الأنهار في العراق تقل عن 4.2 بالمئة، وهي تحتاج إلى تصفية وتعقيم بالكلور ولا تحتاج إلى تحلية كحاجة مياه الخلجان والبحار لذلك فإن البصرة، وتلافيا لنسبة الملوحة في شط العرب، مدت، منذ الستينات، مشروعا من نقطة البدعة في محافظة ذي قار إلى البصرة بطول 200 كيلومتر، علما بأن مياه منطقة البدعة هي من أحد تفرعات نهر دجلة.
كان الماء يصل إلى البصرة بانتظام عبر أنبوب خاص معدّ لهذا الغرض. وقد طوّر هذا الأنبوب وغلّف بمكائن عملاقة لتأمين عدم تعرض الماء للتلوث أو التبخر. لكن بعض الأهالي عمدوا، في ظل حالة الفوضى بالبلاد، إلى كسر أجزاء من الأنبوب ليقوموا بسحب كميات من المياه لمزارعهم الخاصة بتربية الأسماك وسقي بساتينهم، ليأتي بعد ذلك مشروع سد أليسو التركي ليضاعف من الأزمة ويزيد من انحسار كميات المياه المتدفقة.
إلى جانب السد التركي، تنشط أيضا المشاريع الإيرانية، من ذلك تحويل مجرى نهر الكارون الذي ينبع من الأراضي الإيرانية المحاذية للعراق. وحال تحويل هذا النهر دون تغذية شط العرب وأوقف رافدا مهما من روافد مياه العراق الطبيعية.
وأدت حالة انحسار المياه في شط العرب إلى صعود مدّ البحر من الخليج العربي إلى إغراق نهر شط العرب بالمياه المالحة. ووصلت نسبة الملوحة إلى درجة لم تعد معها محطات التصفية والتعقيم الحالية قادرة على تحلية المياه.
ويقول الخبراء إن الأمر يتطلب أن يعاد بناء كل المحطات وفق الوضع المائي الجديد ذي نسبة الملوحة العالية جدا، مشيرين إلى أن كل مشاريع البصرة المتعاقد عليها مع شركات من مصر واليابان صممت فلتراتها على قدرة لا تزيد عن 3 بالمئة وهذا يعني أنها غير قادرة على تصفية مياه شط العرب بشكلها الحالي لأنها تحتاج إلى تغيير الأجهزة والفلترات بالكامل.
وما يعقّد الأزمة المائية في العراق غياب عقول استراتيجية تدرس مؤشرات حرب المياه التي أطاحت بالبصرة وستطيح بمحافظات أخرى مستقبلا، حيث لم يتم إنشاء سدود طيلة الخمس عشرة سنة الماضية، بالرغم من الوفرة المالية التي زادت عن ترليون دولار، ورفع الحصار واستعداد الشركات العالمية للعمل في العراق، وسبب ذلك غياب الإرادة السياسية وارتهان القرار العراقي لجهات خارجية.
ما الحل؟

المعالجة السريعة التي شرحها لـ”العرب” مدير مشاريع في شركة بريطانية- يابانية، مساهم فيها البنك الدولي، ومختصة بتحلية مياه الشرب في عدد من بلدان الخليج ودول أخرى، وقد عملت خمسة مشاريع لمحافظة بغداد، تكمن في:
- تخصيص مبلغ كلفة المشروع وحجزه في بنك معتمد عراقي- دولي وهو بحدود أقل من مليار دولار.
- نصب منظومات التحلية مزودة بمحطات توليد طاقة ذاتية وهذا موجود ومصنّع حاليا يمكن توفيره، مع إضافة التعقيم في العقود كي يتمكن المستهلك من الشرب من الحنفية.
- المباشرة بنصب أنابيب من نقطتين واحدة من الفاو التي تبعد 80 كيلومترا عن المركز، والثانية من البراضعية الأقرب لمركز البصرة. ويمكن تأمين تلك المنظومات خلال شهرين إذا توافرت مبالغ شرائها.
- الشروع بإنشاء محطات ثابتة لتصفية المياه المالحة، من 45 فما دون مع مرونة في إبدال الفلترات حسب نسبتها.
- الشروع بعد ذلك في نصب محطات على البحر لتأمين التحلية المستمرة.
- إنشاء مصنع أنابيب خاص بمياه الشرب يؤمن بدائل صيانتها المستمرة.
يؤكد الخبراء لـ”العرب” أن هذه الحلول العملية ممكنة لإنقاذ البصرة من كارثة بيئية، لكن ما يؤلم، وفق ما صرح به أحد الخبراء، أن هذه المقترحات قدّمت للحكومة في بغداد منذ شهرين ولمحافظة البصرة منذ شهر ولم ينظر إليها باهتمام أو يطلب من المؤسسة المختصة للمداولة، في وقت يبذل مهندسون عراقيون جهدا لتوفير الحلول السريعة للأزمة، التي تضاعف من تأثيراتها درجات حرارة تتجاوز الخمسين درجة، فيما يؤكد الخبراء أن الوضع المتفاقم ينذر بخراب البصرة ويهدد الحياة فيها، وقد تنتهي صلاحيتها للسكن البشري.