أزمة تونس: مؤامرات ضد الحُكام أم ضد الشعب والديمقراطية

تونس – تمرّ تونس منذ مطلع العام 2018 بأزمة سياسية خانقة لم تكن وليدة الصدفة بقدر ما كانت نتاجا للعديد من التراكمات المتشابكة والحاملة للعديد من الأوجه، منها ما هو سياسي واجتماعي واقتصادي ومنها ما هو متعلّق بصفة أدق بالهواجس التي تسكن مختلف مكونات الطبقة السياسية المهووسة منذ إعلان نتائج الانتخابات التشريعية والرئاسية في عام 2014 بالمحطات الانتخابية المرتقبة في عام 2019 وخاصة منها الرئاسية.
ولا تنبئ الأزمة السياسية الراهنة بوجود آمال كبيرة للانفراج في ظل تمترس البعض ممّن هم في الحكم إما بالشرعية الانتخابية وإما باختباء البعض الآخر وراء ستار نظريات المؤامرة للتنّصل من كل المسؤوليات السياسية والأخلاقية تُجاه شعب أهدى الجميع ثورة غيّرت نظاما برمته.
بالعودة إلى أسباب الأزمة الراهنة، يتبيّن أن مسبباتها كانت اجتماعية صرفة حيث أن شريحة واسعة من التونسيين كانت بمثابة المحركّ الأساسي والرئيسي لها عبر الاحتجاج في شهر يناير 2018 ضدّ سياسات الحكومة التي يقودها يوسف الشاهد، خاصة لدى تمريرها قانون الموازنة العامة أو انتهاجها طريق الإصلاحات الكبرى وفق إملاءات صندوق النقد الدولي.
التسابق نحو اللاشيء
كاد الغضب الشعبي، أن يُسقط حكومة يوسف الشاهد قبل أن يحاول الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي تلافي ذلك بإطلاقه مبادرة إعادة صياغة وثيقة أولويات الحكومة أي اتفاق قرطاج 2، ومن ثمة البحث عن رئيس للحكومة يكون قادرا على تنفيذ بنودها، إلا أنّ السبسي اصطدم في خطوة غير محسوبة باصطفاف حليف الحكم منذ 2014 حركة النهضة، على عكس حزب نداء تونس واتحاد الشغل ومنظمة أرباب العمل، وراء يوسف الشاهد إلى حين البحث عن بديل يضمن تواصل الحركة المتمترسة في الحكم منذ 2011.
الحديث عن المؤامرات لا هدف له سوى توجيه الأزمات السياسية وتسطيحها في محاولة لاستباق أي تفكير في الاحتجاج
لا يوحي المشهد الحالي في البلاد إلاّ بسيرها نحو المجهول أو بتسابق كل مكونات طبقتها السياسية بحُكّامها ومعارضيها نحو اللاّشيء، إذ بات الكل يشن حرب الكل ضدّ الكل، فجبهة النار بين قصري قرطاج (مقر رئاسة الجمهورية) والقصبة (مقر الحكومة) لم تعد خافية على أحد بل باتت مفتوحة ومُعلنة أكثر من أي وقت مضى، ليجد التونسيون أنفسهم بين حيرتين وحسرتين وبلا حول ولا قوة سوى التندّر على صفحات التواصل الاجتماعي للتعبير عن فشل المنظومة الحاكمة أو الطبقة السياسية برمتها في تلبية ما يتطلعون إليه من رخاء ديمقراطي يكون مرفوقا بنمو اقتصادي ورفاه اجتماعي.
وكان رئيس الحكومة يوسف الشاهد أوّل الأطراف التي كشفت عن عمق الأزمة السياسية، بظهوره الإعلامي على التلفزيون الرسمي لا ليُطمئن التونسيين بشأن مستقبل البلاد بل ليشن حربا على المدير التنفيذي لحزب نداء تونس حافظ قائد السبسي ومن خلف ذلك توجيه رسائل مبطنة للرئيس الباجي قائد السبسي.
وبعد حوالي شهرين من خطاب الشاهد، تخللتهما نقاشات وجدل ومفاوضات فاشلة وتبادل اتهامات عمقت الأزمة، أطل الرئيس التونسي في حوار مع قناة محلية، عمّق الصراع صلب أجهزة رأسي السلطة التنفيذية وتحديدا بين رئاسة الجمهورية وبين رئاسة الحكومة ممثلة في يوسف الشاهد الذي ألهته وفق السبسي أحلامه الوردية بالرئاسة في عام 2019 عن تنفيذ المهام الموكلة إليه لإنقاذ تونس من أزمتها الاقتصادية الخانقة.
ووفق الملاحظين، فإن حكومة يوسف الشاهد التي باتت تُسمى في الأوساط السياسية بأنها حكومة النهضة، مرّت بدورها إلى السرعة القصوى لمزيد ربح الوقت قبل حلول موعد الانتخابات في 2019، لتُصبح بمثابة حزب سياسي وليس حكومة.
وأكّدت كل ذلك استقالة مهدي بن غربية، وزير العلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان، الذي لم ينتظر كثيرا ليعلن بعد يومين فقط من استقالته عزمه تأسيس قوة سياسية جديدة عساها تكون قادرة على خلق التوازن في المشهد السياسي.
شبهة تلقي أموال من بريطانيا تلاحق رئيس الحكومة التونسية

تونس – رفع خمسون محاميا تونسيا قضية ضدّ رئيس حكومة البلاد يوسف الشاهد، حول شبهة “تلقي أموال من بريطانيا لتلميع صورته وتشويه الاحتجاجات الاجتماعية الأخيرة بالبلاد”. وقال منسق مجموعة المحامين الخمسين نزار بوجلال، خلال مؤتمر صحافي بالعاصمة الجمعة، إنّ “الشكاية تتعلق بتلقي الحكومة التونسية لأموال من بريطانيا خارج الأطر المالية القانونية للاستنجاد بمؤسسة إشهارية لدعمه خلال الاحتجاجات السلمية في البلاد”. وأشار بوجلال إلى أن “البرلمان البريطاني قرّر فتح تحقيق في الموضوع، كما أن البرلمان التونسي أيضا كوّن لجنة للتحقيق في القضيّة”، دون تقديم المزيد من التوضيحات. وفي مطلع يوليو الجاري، قالت صحيفة الغارديان البريطانية إن حكومة بلادها دفعت أموالا لشركة دعاية عالمية، لإدارة حملة تدعم الحكومة التونسية بعد التحركات التي شهدتها مناطق بالبلاد في مطلع 2018، احتجاجا على موازنة العام المذكور، والتي أقرت زيادات في الأسعار. إلاّ أن السفارة البريطانية في تونس نفت تمويل حكومتها لأي حملة إعلامية مؤيدة لنظيرتها التونسية بقيادة الشاهد أو مناهضة للاحتجاجات الاجتماعية بالبلد الأخير. وقالت السفارة “أصبنا بخيبة من تقارير إعلامية غير صحيحة شوّهت موقف المملكة، فحكومة بريطانيا تقدّم المساعدة التقنية لتونس، من خلال برامج التنمية التي تساعد القطاع العام على التعامل مع الشعب التونسي بطريقة شفافة”. وفي تصريحات إعلامية سابقة، نفى المتحدّث باسم الحكومة التونسية، إياد الدهماني، صحة التقرير الذي نشرته الغارديان. وشدّد الدهماني على أن حكومة بلاده “لم تتعاقد إطلاقا مع أي شركة إشهار في علاقة بما عرفته البلاد من احتجاجات اجتماعية”. وعاشت تونس مطلع 2018، على وقع احتجاجات ضد غلاء الأسعار في عدة مدن، تخللتها مواجهات بين محتجين وقوات الأمن. ويأتي ذلك بعد أن شهدت أسعار بعض السلع بالبلاد زيادات في العديد من القطاعات، تفعيلا للإجراءات التي تضمنتها موازنة 2018.
تعنّت الشاهد
نجح يوسف الشاهد، وفق أغلب الملاحظين، في تحدّي الرئيس وحزبه نداء تونس واتحاد الشغل والمعارضة عبر إحاطة نفسه بحزام سياسي وبرلماني تقوده حركة النهضة وجزء من الكتلة البرلمانية لحزبه الأم نداء تونس. ويوصف بأنه استلهم الخطوات التي انتهجها قبله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي نجح بسرعة قياسية في كسر أسطورة الأحزاب التقليدية اليمينية واليسارية التي هيمنت على الحياة السياسية الفرنسية طيلة عقود. لكن هناك فوارق في الممارسة على اعتبار أن ماكرون استقال من منصبه الحكومي حين اختار السلطة، على عكس الشاهد المتهم بتوظيف أجهزة الحكومة لتعبيد الطريق لمستقبله السياسي.
وأدى تعنّت رئيس الحكومة التونسية وتمترس حركة النهضة وراءه من جهة، في مقابل عجز الرئيس ومن يساندونه فكرة التغيير الحكومي من جهة ثانية، إلى الزجّ بالبلاد في مشهد ضبابي غير محمود العواقب خاصة أنّ السبسي بدا وفق الكثير من المراقبين مثله مثل الشعب غير قادر على التغيير بما منحه له دستور الجمهورية الثانية باقتصاره خلال ظهوره التلفزيوني على تقديم بعض الاستنتاجات أو وضع الشاهد أمام فرضيتين دستوريتين ممكنتين ومعلومتين لدى الجميع، إمّا تقديم الاستقالة وإما المرور عبر البرلمان لطلب تجديد الثقة.
وأدت هذه الحروب المعلنة بين الرئاستين بالضرورة إلى عودة مصطلحات تعوّد على سماعها التونسيون وحفظوها عن ظهر قلب منذ 8 سنوات من قبيل “المحافظة على الاستقرار الحكومي” أو “الشرعية الانتخابية”، ليُختتم المشهد مؤخرا بتكاثر أحاديث نظريات المؤامرة والدسائس.
كل هذه المطبّات، ترجمها نزول المقربين من السبسي ونجله حافظ قائد السبسي بكامل ثقلهم للإفصاح عن وجود مؤامرات تُحاك للإطاحة بالنظام ورئيسه. ومن ذلك ما أكّده مؤخرا القيادي بحزب نداء تونس خالد شوكات الذي قال “إن السبسي يتعرض لمؤامرة بهدف السطو على الحكم”، وذلك في إشارة إلى حركة النهضة.
وفي المقابل، يتمسّك الضلع الأقوى في الحكم، أي حركة النهضة، المتهمة من قبل أنصار الرئيس أو حتى من أحزاب المعارضة الراديكالية كالجبهة الشعبية (تجمع أحزاب يسارية) بمحاولة افتكاك السلطة بطرق دستورية، بإعادة سيناريو قديم جديد على شاكلة ما فعلت في عهدي رئيسي حكومتيها حمادي الجبالي وعلي العريّض في فترة الترويكا عبر تمترسها رغم الفشل بما أفرزته الانتخابات التشريعية وهو نفس السلاح الذي تتمرّد به اليوم على حليفها الباجي قائد السبسي خاصة بعد تمزّق حزبه نداء تونس وانشطار كتلته البرلمانية.
ورغم أن كل الأسلحة تبقى متاحة في عالم السياسة للدفاع عن النفس أو عن الحكم أو المستقبل السياسي شريطة احترام ضوابط أخلاقية معلومة، إلاّ أن ما يدور في تونس الآن بات يُهدّد وفق كل الملاحظين كل ما قدّمه التونسيون من تضحيات لأجل تركيز مسار ديمقراطي تعدّدي وحر.
بغضّ النظر عن صدقية ما يُشاع بشأن المؤامرات المتناثرة بفضل ساسة تونس في كل شبر من البلاد، فإن الكثير من الملاحظين وخاصّة منهم الخبراء في علم السوسيولوجيا السياسة، يؤكّدون أن لعب سلاح تخويف الشعوب بإطناب الحديث عن المؤامرات لا هدف له سوى توجيه الأزمات السياسية وتعويمها وتسطيحها في محاولة لاستباق وكسر أي تفكير في الاحتجاج أو التمرّد حتى وإن كان سلميا وفي نطاق احترام الديمقراطية.
سلاح نظرية المؤامرة
في قلب الأزمة السياسية الحالكة بالبلاد، تتطابق تصورات وتحذيرات بعض دارسي التاريخ من المعاصرين لفترة ثمانينات القرن الماضي من تكرّر صائفة 1987 والتي حيكت فيها مؤامرات الإسلاميين من جهة والرئيس الأسبق زين العابدين بن علي للإطاحة بنظام الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة من جهة ثانية، مع أطروحات المجندين لتخويف الشعب عبر إشاعة المؤامرات.
ويعلّل أصحاب هذا التوجّه الأخير تصوراتهم باستقواء حركة النهضة بكتلتها البرلمانية، الأكبر حجما في مجلس نواب الشعب والقادرة عدديا، إما على تزكية الحكومات وإما الإطاحة بها، إلاّ أن بعض المواقف الأخرى تذهب عكس ذلك بل وتعتبر أن إذاعة نظريات المؤامرة لا تعدو أن تكون سوى توجيه لمسارات الأزمة إلى ثنايا أخرى هدفها الوحيد بالنسبة إلى كل طرف هو المحافظة على البقاء في كرسي السلطة مهما كان الثمن حتى وإن كان ذلك بالتآمر على الشعب أو على ديمقراطيته التونسية الناشئة.
ويرتكز أصحاب النظرة الأخيرة، ومنهم المنتمون إلى أحزاب المعارضة أو طيف واسع من المجتمع المدني، على تفسير إشاعة نظريات المؤامرة في المشهد التونسي منذ مدة بتأصيلها فكريا عبر التأكيد على أن معتمدي نظريات الدسائس عادة ما يلتجئون إلى الإيحاء بوقوف جهات خفية وراء كل ما يحدث من أزمات سياسية متعاقبة في البلاد للتنصّل من المسؤولية وإخفاء الفشل والعجز عن إدارة دواليب الحكم.
يرى هذا الطيف الواسع من التونسيين أن حزبي الحكم نداء تونس والنهضة تحديدا يحاولان عبر نشر فرقعات الدسائس والمؤامرات اختراق كل المجالات بما في ذلك الدين، وهو ما تدّعيه مثلا الأطراف الإسلامية في تونس منذ عام 2011 من قبيل ترويج أطروحات مفادها “التآمر على الإسلام”.
أما من الناحية السياسية، فيعتبر الكثير من المراقبين أن من يديرون الحكم في تونس منذ عام 2011 ومعارضيهم على حدّ السواء تقريبا، يعتمدون سلاح التخويف من الدسائس والمؤامرات لتبسيط الأحداث وتسطيحها وفق قالب نمطي واحد يصلح لتفسير كل شيء تقريبا، لتفادي الوقوع والسقوط أو بدل القيام بجهد سياسي بناء يمكّن البلاد من الخلاص وينقذها من مآزقها المرتقبة قبل حلول موعد الانتخابات الرئاسية في عام 2019.
ما يدور في تونس الآن بات يهدد كل ما قدمه التونسيون من تضحيات لأجل تركيز مسار ديمقراطي تعددي وحر
وعلى طريقة الروايات، فإن اعتماد سلاح نظريات المؤامرة في تونس يحفل بالجانب الأسطوري والفلكلوري وبالكثير من الغموض، وهو ما يُضفي عليها بريقا يوحي للعامة بأنها “حقيقة عميقة” ويجعلها حديث الجميع المُنبّه على سبيل المثال من خطر قادم من دولة أجنبية وذلك بدل أن تبذل الأحزاب المنتخبة جهدا وطنيا حقيقيا يكون مرتكزا على تغيير السياسات قبل الأشخاص وجعل الفعل السياسي متمحورا حول متطلبات الشعب الحقيقية.
بدورها، لم تقدّم المعارضة أي تصورات أو بدائل عملية تُذكر لتتماهى بالتالي في ممارستها للفعل السياسي مع الائتلاف الحاكم ببقائها طيلة ثماني سنوات، إما تدور في حلقة “احتجاجية” مفرغة عبر ترويج نفس الشعارات المتكلّسة، وإما عبر الانخراط أيضا في نفس المنطق المرتكز على تخويف الشعب من مؤامرات تحاك ضدّه من قبل أطراف أجنبية وداخلية.