أزمة اليسار التونسي.. جبهة تتفكك خارج السلطة لن تكون قادرة على الحكم

يطرح تفكك الجبهة الشعبية وهي تجمع أحزاب يسارية وقومية في تونس، قبل أشهر قليلة من الانتخابات التشريعية والرئاسية في شهري أكتوبر ونوفمبر القادمين، العديد من الأسئلة في الأوساط السياسية ولدى قواعدها بشأن جهوزيتها لهذه الاستحقاقات الهامة، وكذلك العديد من الاستفسارات حول مقدرة عائلة سياسية ظلت تقدّم نفسها كبديل للحكم طيلة السنوات التي تلت ثورة يناير 2011، والحال أنها لم تقدر على إدارة شأنها الداخلي برأب الصدع بين مكوناتها في وقت تثار فيه العديد من المسائل السياسية الحارقة على الساحة التونسية.
تونس - بعد أشهر من حملات التشكيك والتخوين بين مكونات الجبهة الشعبية التونسية وتحديدا بين أكبر فصيلين يساريين داخلها وهما حزب العمال وحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد، يبدو أنه تم طي الصفحة بشكل شبه رسمي بإعلان غالبية مكونات المجلس المركزي ومجلس الأمناء للجبهة طرد كل من حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد وحزب رابطة اليسار العمالي.
حلم يساري تلاشى
إلى حدود الانتخابات التي أجريت في عام 2014 وبعد هذه الفترة ببضعة أشهر، كانت الجبهة الشعبية والتي كان من بين مؤسسيها المعارضان شكري بلعيد وكذلك محمّد البراهمي اللذان تم اغتيالهما في فترة حكم “الترويكا”، تعد بديلا ثالثا للحكم بعد حزب نداء تونس وحركة النهضة الإسلامية، لكن خلافاتها الفكرية والسياسية لم تصمد أكثر من سبع سنوات لتتفجر بالنهاية.
في الأشهر الأخيرة تفجرّت الجبهة الشعبية بعد أن تمحورت كل الخلافات في بادئ الأمر بين حزب العمال وحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد حول ملف من سيكون مرشّح الجبهة في الانتخابات الرئاسية، هل هو حمة الهمامي الناطق الرسمي للجبهة الشعبية وزعيم حزب العمال أو منجي الرحوي النائب في البرلمان عن حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد.
بعد أخذ وردّ واتهامات وجّهتها قيادات حزب الوطنين الديمقراطيين لحمة الهمامي بالاستحواذ على الجبهة وتسجيلها قانونيا باسمه، خرج الأخير، الأربعاء الماضي لينفي كل ذلك معلنا عن ميلاد جبهة شعبية رابعة تكون بلا حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد (زعيمه شكري بلعيد) وبلا حزب رابطة اليسار العمالي.
وقال الهمامي في ندوة صحافية خصصت للغرض “هناك نسخة رابعة من الجبهة الشعبية ستنطلق في الإعداد للقائمات الانتخابية دون مشاركة حزب الوطنيين الموّحّد”، نافيا أن تكون المعركة حول مرشح الرئاسية بقدر ما هي معركة سياسية بحتة.
واتهم الهمامي أطرافا من “الوطد” وعلى رأسها منجي الرحوي بمحاولة تحويل مسار الجبهة نحو الائتلاف الحاكم، بتأكيده أن الرحوي التقى خلسة في أكثر من مرة الرئيس الباجي قائد السبسي دون إعلام مجلس أمناء الجبهة.
موقف ردّ عليه بسرعة قياسية الأمين العام لحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد أو ما يعرف في تونس بـ”الوطد”، زياد لخضر بقوله الخميس “الجبهة في نسختها الرابعة التي أعلنها حمة الهمامي ولدت ميتة، على غرار الجبهة في نسختها الثانية والتي شقها حمة بيده.”وأضاف لخضر قائلا “لم تلده أمه بعد من يطرد الوطد من جبهة، ضحّينا من أجلها بشهيدين هما بلعيد والبراهمي”.
كل هذا اللغط يأتي في وقت بدت فيه المسألة محسومة صلب هياكل الجبهة المتفقة بأغلبية أمنائها وذلك بطرد الوطنيين الديمقراطيين، لكن كل هذا يثير في المقابل عدة أسئلة بشأن جهوزية الجبهة الشعبية لخوض الاستحقاقات الانتخابية القادمة والتي ستكون حاسمة.
وبالتزامن مع حديث حمة الهمامي عن أن الجبهة الشعبية ستخوض الانتخابات التشريعية رغم الانشقاقات، ظهر رياض بن فضل منسق حزب القطب وهو أحد الأحزاب اليسارية التي مازالت من بين مكونات الجبهة بمظهر يائس وغير آمل في تحقيق نتائج تذكر في الانتخابات التشريعية بقوله إن “الجبهة غير جاهزة للانتخابات التشريعية”.
وأضاف بن فضل في ظهور إعلامي بأن “الجبهة الشعبية هي بمثابة حلم قد يتلاشى جراء خلافاتها السياسية العميقة والتي لم تنجح قيادتها في حلّها، علاوة على عدم تطوير خطابها طيلة سبع سنوات كانت تحمل حلم جل اليساريين في تونس.. اليسار التونسي في أحلك فتراته”.
تعقيدات فكرية
بعيدا عن مستقبل الانتخابات والذي يبدو في تونس أنه قد يكون محسوما بشكل كبير، وأن معركته ستدور بين حركة النهضة وحزب “تحيا تونس″ الذي يتزعمه رئيس الحكومة يوسف الشاهد خاصة بعد تمرير تعديلات ضمن القانون الانتخابي وصفت بالإقصائية، فان أقرب المقربين من الجبهة الشعبية قبل خصومها باتوا يتساءلون عن تفكك جبهتهم التي انفجرت وهي خارج السلطة، فكيف كان الأمر لو دخلت الحكم وأمسكت بزمامه؟
هذا المدخل، لا يمكن الخوض فيه دون التأكيد بأن مكونات الجبهة الشعبية متعددة الروافد اليسارية والقومية والبعثية، وهو ما حال دون تقدّمها ووصولها إلى التنظّم في شكل حزب يساري كبير وصعّب مأمورية حسم الخلافات داخلها، خاصة مع وجود أطراف توصف بالراديكالية وترفض رفضا قاطعا الاقتراب من أحزاب السلطة، فيما تضم أيضا أحزاب يسارية منفتحة على كل الاقتراحات بما في ذلك الاستعداد لدخول الحكم وفرض برامجها من داخل السلطة.
غير المتابع بشكل جيّد لتطور نسق خلافات الجبهة الشعبية فوجئ في الأشهر الأخيرة بخلافاتها، لأن كل المؤشرات كانت توحي بأنها متماسكة خاصة وأن كتلتها البرلمانية التي تضم 15 نائبا ظلت كما هي منذ انتخابات 2014.
لكن المتابع الجيّد يدرك أن الأزمة لا تقتصر على التناحر بين حزب العمال والوطنيين الديمقراطيين الموحّد، حيث سبق لعدد من اليساريين المستقلين داخلها وأن فضلوا الانسحاب منذ أشهر دون إحداث بلبلة.
ومنذ أشهر طالب المنسحبون من الجبهة الشعبية بضرورة تنظيم ندوة وطنية تقترب من القواعد وتشرف على القيام بمراجعات فكرية وسياسية تجعل من الجبهة أكثر تنظيما وهيكلة وذات خط سياسي موحّد لا تشقه المعارك السياسية التقليدية بين “اللينيني” و”التروتسكي” و”الماوي” والإصلاحي…إلخ.
لكن قيادة الجبهة الشعبية قبل إعلان التفكّك، تعاملت مع هذه المطالب بتجاهل، وحاولت إدارة خلافاتها الداخلية في غرف مظلمة قبل أن يعلن حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد عن نيته تقديم النائب منجي الرحوي للانتخابات الرئاسية، فخرجت الأزمة إلى العلن ولم تستطع كل قيادات الجبهة خفتها أو حلها بشكل سري.
بعيدا عن كل ما هو فكري وأيديولوجي، وبإجماع الملاحظين وبمن فيهم اليساريين، فإن الجبهة الشعبية لم تستثمر ما وصلت إليه منذ حصدها نتائج تعد طيبة في الانتخابات التشريعية أو الرئاسية، بما أن حمة الهمامي حلّ ثالثا آنذاك، في الرصيد الذي كونته، بل على العكس تماما ظلت خطاباتها كلاسيكية وغير قادرة على اختراق النسيج المجتمعي رغم أن خطاباتها النظرية هي الأقرب إلى الفئات الاجتماعية الفقيرة والمهمشة.
هذا القصور الذي ميّز السياسة المتوخاة من أكبر فصيل يساري تونسي، دفع بالمسجّلين في سجلات الانتخابات إلى البحث عن بدائل أخرى كالحزب الحر الدستوري التونسي الذي تقوده عبير موسي سليلة النظام القديم أو حزب التيار الديمقراطي ويتزعمه محمد عبو أو نبيل القروي وهو صاحب قناة تلفزية دخل السياسة من بوابة العمل الخيري قبل أن يتم إقصاؤه بعد التعديلات الجديدة على القانون الانتخابي.
هذه الخيارات الأخيرة يرى فيها بعض المحللين والمراقبين أنها فُرضت على الناخبين الباحثين عن بدائل سياسية واقتصادية تكون وازنة ومهيكلة وقادرة على تعويض منظومة الحكم الحالية في تونس والتي تقودها حركة النهضة الإسلامية وكذلك حزب تحيا تونس العلماني حديث النشأة والمحسوب على الحكومة.