أزمة الثقة بين دمشق والسويداء تحتاج إلى وساطة إقليمية عاجلة

يعكس تصاعد العنف مؤخرا في جنوب سوريا حجم أزمة الثقة المتفاقمة بين الحكومة المركزية والطائفة الدرزية. ومع تصاعد الهجمات والاحتكاكات مع الميليشيات تبرز الحاجة إلى وساطة إقليمية عاجلة لتفادي انزلاق الجنوب نحو فوضى جديدة تهدد مستقبل سوريا ووحدتها.
السويداء (سوريا) - كشف تفجر العنف مؤخرا في جنوب سوريا، عن هشاشة نظام ما بعد بشار الأسد في البلاد، وعن المخاوف الكامنة لدى الأقليات من أن الحكومة الحالية غير راغبة أو غير قادرة على تشكيل حكومة تضمن حقوق الأقليات أو تضمن سلامة جميع السوريين من بطش الميليشيات.
وبالنسبة إلى الدروز تحديدا، تُمثل الاشتباكات الأخيرة اضطرابا أعمق في سوريا الجديدة: فقد خلقت تجاربهم السابقة خوفا مبررا من مزيج من ضعف الحكومة المركزية، وتزايد جرأة الميليشيات، والتردد الإقليمي والدولي في فرض مساءلة حقيقية.
ويُعدّ اندلاع العنف مؤخرا في الساحل السوري وما تلاه من مجازر ارتُكبت ضد العلويين مثالا واضحا على ذلك.
ويخشى الكثيرون من الدروز، داخل الحدود السورية وخارجها، من أنه ما لم تُتخذ إجراءات دبلوماسية استباقية، فإن الأقليات السورية – وعلى رأسها الدروز – ستتحمل وطأة هذا عدم الاستقرار وتصبح كبش فداء.
ويرى مكرم رباح، أستاذ مساعد للتاريخ في الجامعة الأميركية ببيروت، في تقرير نشره معهد واشطن أن هذه المخاوف تُعقّد بصيص الأمل المنتشر بين السوريين بعد سقوط نظام الأسد، والذي لطالما اعتُبر حلما بعيد المنال.
مخاوف كامنة من أن دمشق غير راغبة أو غير قادرة على تشكيل حكومة تضمن حقوق الأقليات أو تضمن سلامة جميع السوريين من بطش الميليشيات
ومع ذلك، لم يُرسِ الرئيس أحمد الشرع، الجهادي السابق الذي تحوّل إلى سياسي، تماسكا أو شرعية لأمّةٍ مزقتها الحرب.
وفي الأسابيع الأخيرة، أشعل اشتباكٌ دمويٌّ بين مقاتلين دروز وميليشياتٍ تابعةٍ للحكومة في ضاحيتي صحنايا وجرمانا بدمشق احتجاجاتٍ وهجماتٍ انتقامية، ما جدّد مخاوف الدروز من استهداف الدولة للأقليات.
وعندما ينظر الدروز إلى دمشق، يخشى الكثيرون عجز الشرع – أو عدم رغبته – في كبح جماح قوات الأمن المارقة، الأمر الذي أدّى بالفعل إلى عنفٍ عشوائي، بما في ذلك في المناطق ذات الأغلبية الدرزية مثل السويداء وجرمانا وشهبا.
وحافظ دروز سوريا، وهم طائفة مهمّشة تاريخيا، وإن كانت بارعة سياسيا، على حيادهم الإستراتيجي طوال معظم فترة الصراع السوري، وهي سياسة وُضعت كإستراتيجية بقاء مدروسة بدلا من الانسحاب السلبي.
وخلال معظم الثورة السورية ضد الأسد، امتنع الدروز عن دعم المتمردين أو الأسد بشكل كامل، وحرصوا بدلا من ذلك على استخدام العنف، الذي كان يُصوّر دائما على أنه دفاع عن النفس.
وبينما سعت قوات الشرع إلى ترسيخ سلطتها في ظل حكومة انتقالية جديدة، ظلت قطاعات كبيرة – وإن لم تكن جميعها – من القيادة الدرزية حذرة، رافضة الاندماج الكامل في الجهاز السياسي والعسكري الجديد.
ولا ينبع هذا التردد من تعنّت طائفي، بل من مخاوف من انزلاق سوريا من الاستبداد إلى شكل جديد من التطرف، تطرف متستر وراء لغة الإصلاح، لكنه يعمل بنفس الغرائز القمعية، إذ أن هذا التشكك متجذر في التاريخ الحديث.
تجارب الدروز السابقة خلقت خوفا مبررا من مزيج من ضعف الحكومة المركزية، وتزايد جرأة الميليشيات، والتردد الإقليمي والدولي في فرض مساءلة حقيقية
ودأبت القيادة الدرزية، لاسيما في السويداء، على التعبير عن استيائها من الوضع السياسي في سوريا، مؤكدة رغبتها في البقاء جزءا من سوريا موحدة.
وعلى وجه الخصوص، انتقد الشيخ حكمت الهجري، أحد الزعماء الروحيين الثلاثة للطائفة الدرزية، علنا نظام الأسد وخليفته لتقصيرهما في حماية حقوق الأقليات، ولسماحهما للميليشيات الأجنبية بترسيخ وجودها في البلاد.
وفي خطبة شهيرة ألقاها في وقت سابق من هذا العام، حذّر الهجري من “استبداد جديد يرتدي زيا ثوريا”، وحثّ الشباب الدرزي على الدفاع عن مدنهم، مع الامتناع عن الانحياز لأيّ فصيل لا يضع وحدة سوريا وسيادتها في المقام الأول.
وتجلّت هذه المقاومة الداخلية عمليا. فقد رفضت العديد من الميليشيات الدرزية الشعبية نزع سلاحها أو الانضمام إلى القوات العسكرية للشرع، واتهمت القوات الحكومية بالفساد والاستهداف الطائفي.
وبلغت التوترات ذروتها عندما تعرّض مقاتلون دروز لكمين قرب صحنايا، زُعم أنه نُصب على يد وحدة موالية للحكومة. وقد أدى تبادل إطلاق النار الذي تلا ذلك، وما تلاه من مداهمات أمنية على الأحياء الدرزية، إلى تفاقم مخاوف هذه الطائفة من حملة لترهيبها وإجبارها على الاستسلام.
ومع ذلك، ورغم هذا الضغط المتزايد، ظلّ الهجري وأنصاره ثابتين على مطالبهم: استقلالية الحكم المحلي، والحماية من الميليشيات الخارجية، ومقعد غير شكلي على طاولة أيّ جهد لإعادة الإعمار السياسي.
وتتوافق هذه المطالب في الواقع مع المبادئ التي وضعها المجتمع الدولي خلال الجولات السابقة من محادثات السلام السورية.
ترك دروز سوريا يواجهون المأزق المتفاقم بأنفسهم لن يفاقم الأزمة الإنسانية في الجنوب فحسب، بل سيُهيئ أيضا أرضا خصبة للميليشيات الإيرانية
وانطلاقا من إيمانها بتوافق مطالبها مع توقعات المجتمع الدولي، دعت القيادة الدرزية السورية إلى التدخل الدبلوماسي للتوسط في العلاقات مع دمشق وحماية حقوق الأقليات في سوريا. كما أعربت الطائفة الدرزية الأوسع عن مخاوفها العميقة وبذلت جهودا لتعزيز المشاركة الإقليمية.
ودعا زعماء الدروز الإسرائيليون حكومتهم علنا إلى حماية أقاربهم السوريين، بينما حثّت شخصيات سياسية درزية في لبنان – على الرغم من انقسامها – على دعم الحكم الذاتي الدرزي في سوريا.
ونظرا لاهتمام دمشق الواضح بالشرعية الدولية، هناك عدد من الوسطاء الذين قد يكونون مقبولين لدى الجانبين. فالولايات المتحدة، على الرغم من تقليص وجودها العسكري في سوريا، تحتفظ بنفوذ دبلوماسي كبير. ولكن لا تقل أهمية عن ذلك جهات فاعلة إقليمية مثل الأردن – الذي تربطه علاقات قبلية عميقة مع الدروز، ولعب تاريخيا دورا في استقرار جنوب سوريا – والإمارات العربية المتحدة، التي مثّلت وسيطا لحقوق الأقليات وإعادة الإعمار بعد الصراع، وبالطبع المملكة العربية السعودية.
ويمكن لهذه الجهات الفاعلة التركيز على خفض التصعيد وبناء الثقة بين الحكومة المركزية والمجتمعات الهامشية مثل الدروز.
وتشمل أهم الاهتمامات المباشرة نزع السلاح من المناطق المتوترة التي قد تشهد اشتباكات بين الدروز والميليشيات الأخرى، ووقف الاعتقالات التعسفية، والتوسط بين قادة المجتمعات المحلية والجهات الفاعلة في الدولة.
وبالمثل، يمكن لمبادرة يقودها العرب، ربما تحت رعاية جامعة الدول العربية أو بالتنسيق مع الأمم المتحدة، أن تفتح قنوات للحوارات المحلية التي تُعطي الأولوية للحوكمة الشاملة وتمثيل الأقليات، مع معالجة مخاوف الحكومة المركزية من أن الإفراط في اللامركزية سيؤدي إلى وضع أمني ممزق.
كما أن التعاون مع دمشق في هذه القضايا يسمح بربط الاعتراف الإقليمي والحصول على أموال إعادة الإعمار بإصلاحات ملموسة تسعى إليها الأقليات السورية على نطاق أوسع – بما في ذلك ضمانات لهذه المجتمعات، ولامركزية السلطات الإدارية، والحماية القانونية للجماعات الدينية والعرقية – وهي تفاصيل يستطيع السوريون مناقشتها والاتفاق عليها.

وقد أثبت البديل – الإهمال والانسحاب – أنه كارثي من قبل، والمنطقة مليئة بحالات تُثبت أنه عندما تُتجاهل التوترات الطائفية، فإنها تتفاقم.
ولن يفاقم ترك دروز سوريا يواجهون هذا المأزق المتفاقم بأنفسهم الأزمة الإنسانية في الجنوب فحسب، بل سيُهيئ أيضا أرضا خصبة للميليشيات الإيرانية أو حزب الله أو فلول داعش لاستغلال المظالم المحلية.
وهناك بالفعل تقارير عن محاولات جماعات متحالفة مع إيران التسلل إلى جنوب سوريا تحت ستار تقديم الحماية، وهو تطور قد يزيد من زعزعة استقرار المنطقة ويهدد الحدود الشمالية لإسرائيل.
والأمر الحاسم هو معالجة هذه التحديات قبل وقوع صدام أوسع نطاقا. وتقف سوريا الجديدة عند مفترق طرق آخر، والنجاح في التعامل مع التوترات بين دمشق وبقية سوريا، مثل السويداء، أمرٌ أساسي لضمان ألا يُشبه مستقبل سوريا ماضيها القريب.
وعلاوة على ذلك، فإن إرساء إطار عمل ناجح لإدارة العلاقات بين دمشق والطائفة الدرزية يمكن أن تكون له آثارٌ ممتدة على فئاتٍ أخرى تشعر بالقلق من قدرة الحكومة المركزية على الاعتراف بحقوق الأقليات وتلبيتها، وضمان أن تُرسي الدبلوماسية، لا العمل العسكري، هذه العلاقات الجديدة.
ولضمان إيجاد سوريا لهذا البديل، يُعدّ اتباع نهج إقليمي منسق أمرا ضروريا أخلاقيا وسليما جيوسياسيا.
وستشكل الطريقة التي سيتم بها حل الأزمة الحالية سابقة في مستقبل سوريا، وبالتالي تُتيح فرصة لكلٍّ من الجهات الفاعلة الإقليمية والأطراف المهتمة، مثل الولايات المتحدة، للعمل من أجل مستقبلٍ سوريٍّ مستقر.