أزمة الاقتصاد الروسي بنيوية ناتجة عن تبعية للخارج

يبدو أنّ الأزمة التي تضرب الاقتصاد الروسي ليست أزمة عابرة تتوقف على ظرف خارجي طارئ مخطّط له من قبل “مناوئي” النظام الذي يقوده فلاديمير بوتين وسياساته في أوكرانيا من خلال العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها الغربيون، والانخفاض المتسارع والكبير في أسعار النفط، ولكنها أعمق من ذلك كونها تتأسس على الطبيعة الريعية التي يقوم عليها الاقتصاد الروسي والتي تعتمد بدرجة كبيرة على بيع النفط والغاز والصادرات المعدنية، وهو ما يعزز تبعيته للخارج.
الأزمة الاقتصادية الروسية ناشئة في الأصل من طبيعة النظام الاقتصادي الذي أسّست له الطغمة التي يترأسها بوتين، ولم يساهم دور العقوبات الغربية وكذلك انهيار أسعار النفط، إلاّ في إظهارها والتعجيل فيها.
ماهي الجذور المادية؟
لا يمكن الفصل بين تطورات الواقع الاقتصادي في روسيا وبين الطبيعة الطبقيّة للقوى المسيطرة فيها والّتي تُحدد، وفقا لمصالحها، السياساتِ الاقتصادية التي تعود عليها بالنّفع الأكبر. وإذا تمّت مراجعة طريقة نشوء تلك الطبقة التي قدّر لها أن تحكم الاتحاد الروسي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي لَتبيّن أنّها طبقة “مافيوية” من أصول بيروقراطية تعاونت أولا مع مافيات أجنبية حتى استكملت نموَّها، ثم أقصَتْ تلك المافيات بعد أن رسّخت سيطرتها الاقتصادية والسياسية بقيادة فلاديمير بوتين والمجموعة التي تحيط به.
من هنا نجد أنّ النظام الرأسمالي الذي استعاد سيطرته على الاتحاد الروسي، استعادها عبر أدوات مافيوية تمقتُ الاقتصاد المنتج والإشكاليات المرتبطة به من بنى تحتيّة ورأسمال ثابت وطبقة عاملة وأشكال نقابية. وتحبّذ الاقتصاد الريعي الذي يمكّن من الربح الفاحش والسريع والمرتكز على المتاجرة الخارجية، وبوجه أخص، على تسويق النفط والغاز، حيث باتت روسيا على رأس قائمة الدول المنتجة والمصدّرة لهذه المادة بعد المملكة العربية السعودية، ولكنّ ذلك لا ينفي أنّه اقتصاد تبعي مرتبط بالسوق العالمية التي تسيطر عليها دول كبرى عريقة في إمبرياليتها.
وهكذا فقد فشلت كل المشاريع الاقتصادية وخاصة الصناعية التي قدّمت للسلطة، دون أن يتعرض المشهد الاقتصادي العام لاهتزازات كبيرة طالما كانت أسعار المواد المصدَّرة في تحسن، ليشهد أزمات بنيوية حادة كلما تقلّب سوق تلك الصادرات.
وفي هذا السياق، دلّت المعطيات أن نسبة 69 بالمئة من الأموال الّتي حصلت عليها روسيا سنة 2010، جاءت من صادرات النفط والغاز والفحم، وهو ما يؤشر على مدى ارتباط الاقتصاد الروسي بتقلبات السوق العالمية في الطلب على هذه المواد، في حين شهدت الأعوام الأخيرة تراجعا كبيرا في حجم الاقتصاد الصناعي، حيث أنّ عددا كبيرا من المصانع قد توقف عن العمل. ففي حين شهد هذا القطاع تراجعا (نموا سلبيا) بنسبة 11 بالمئة عام 2009، لم يشهد بعدها نموّا وازنا حتّى اليوم.
لم تكن العقوبات الغربية على موسكو وانهيار أسعار النفط إلا هبة الريح التي كشفت الخور الذي أصاب الاقتصاد الروسي
ونظرا لتبعية هذا الاقتصاد، وارتهانه للسوق العالمية التي تسيطر عليها دول كبرى عريقة في إمبرياليتها، وجدت السلطة الروسية نفسها مندفعة نحو مغامرة غير محسوبة العواقب في أوكرانيا، ردّا على الانتفاضة التي واجهت الرئيس الأوكراني المتحالف مع موسكو فيكتور يانوكوفيتش، والتي أعقبت عدة تحركات احتجاجية في أكثر من منطقة في الاتحاد الروسي نفسه وفي بلدان الاتحاد السوفيتي السابق وجوبهت بالقمع الدموي.
ولأن هذه الانتفاضة أجبرت الرئيس الأوكراني على التنحي، مارست موسكو كل ما رأت أنّه يحفظ مصالحها، خاصّة في ما يتعلق بخطوط نقل الغاز باتجاه الأسواق الأوروبية. وفي إطار ردّة فعل متوتّرة ضمّت إليها شبه جزيرة القرم بعد “مسرحيتي” الاستفتاء على الاستقلال والانضمام إلى الاتحاد الروسي.
وفي هذا السياق، يتجلى الدور الإمبريالي لروسيا، الذي يتسم بـ”التصرف الطفولي والرعونة”، حيث يمكن القول إن روسيا قد بلغت مرحلة الامبريالية “والناس راجعة”! وهذا ما يجعل إمبرياليتها المافيوية موتورة لأنّها غير ذات جذور وقواعد صلبة اقتصاديا وسياسيا شأن الإمبرياليات القديمة.
كيف كانت التداعيات الداخلية؟
رغم ما يشاع عن تحسن الدخول الذي استفاد منه العاملون في القطاع الحكومي الروسي، خاصّة على خلفية ارتفاع الريع النفطي خلال السنوات الأخيرة ( 2009-2012) من حوالي 535 دولارا شهريا إلى حوالي 900 دولار للفرد الواحد في الشهر، (وهذا طبعا بسعر الصّرف السابق للانهيار النّقدي الأخير)، فإن طبيعة الاقتصاد الريعي تعود بالفائدة على الطبقة المافيوية المسيطرة وبنسبة أقل بكثير على العاملين معها.
وهذا النمط الاقتصادي لا يعتد به كنمط تشغيلي، حيث أن نسبة العاملين في قطاعاته ليست سوى نسبة ضئيلة من مجمل القوى العاملة. وفي حين يتم تهميش القطاعات الأخرى الأكثر تشغيلا، شأن الصناعة والزراعة، تتراجع العمالة وتتوسّع نسب البطالة والتهميش وتتّسع الهوة بين الأكثرية المفقرة والأقلية الأوليغارشية. وقد كان هذ قائما قبل استفحال الأزمة الأخيرة والتي سوف تلقي بثقلها الكبير على الطبقات المتوسطة والفقيرة، مما سيؤدي حتما إلى انفجار احتجاجات ضد السلطة لا يمكن الآن توقّع أو تحديد حجمها وتوسّعها.
وفي هذا الإطار، لا بد من الانتباه إلى أنّ انهيار سعر صرف الروبل ثمّ تأرجحه يسيل له لعاب المافيا المالية التي سوف تجد في هذا الأمر بابا من أبواب مراكمة الأرباح السريعة، في حين يستنزف ليس فقط مدخرات الطبقة الوسطى، وإنما جل رواتب ومعاشات العمال والموظفين في ظل تقلب الأسعار الذي سينتج حكما عن ذلك، مما سيفاقم الأوضاع ويهدد الاستقرار الاجتماعي الهش.
ولم تكن العقوبات الغربية على موسكو وانهيار أسعار النفط إلاّ هبّة الريح التي كشفت الخَوَرَ الذي أصاب النمط الاقتصادي الروسي، فشجع الدول الغربية على تصعيد مواقفها حيال السلوك السياسي تُجاه أوكرانيا. ولكنّها أيضا قدّمت شماعة يُلقي عليها بوتين الملامة في ما وصلت إليه حالة الاقتصاد الرّوسي، (المؤتمر الصحفي للرئيس بوتين الخميس 18 /12 /2014). فليس الحصار ما يجعل اقتصادات الدول تنهار بهذا الشكل وليست العقوبات، وهي مؤذية ومؤثرة. فكوبا، على سبيل المثال، الّتي عانت حصارا على مدى أكثر من نصف قرن لم تنهر، على الرغم من ضآلة مواردها قياسا بالإمكانيات الضخمة التي تزخر بها روسيا.
النظام الرأسمالي الذي استعاد سيطرته على الاتحاد الروسي، استعادها عبر أدوات مافيوية تمقت الاقتصاد المنتج
وبهذا فإنّ أسلوب تعاطي بوتن وحكومته مع الأزمة في أوكرانيا يُنبئ بالطريقة التي قد يلجأ إليها في حال حدوث احتجاجات شبيهة في روسيا نفسها. من هنا فإنّ توقع الاحتجاجات مرتبط بتوقع ردود أفعال عنيفة من قبل قوى القمع الروسية. وقد يكون كلام بوتين بخصوص تفعيل أجهزة المخابرات الروسية، مؤشّرا على توقّع السلطات الروسية لمثل هذا الاحتمال.
ماهي التداعيات الخارجية؟
للوهلة الأولى يتوقع المراقبون أن تسعد الحكومات الغربية لتفاقم الوضعين الاقتصادي والنقدي في روسيا. وهي إذ تواصل تهديدها لحكومة بوتين بمزيد من العقوبات، مطالبة إياه بالتراجع عمّا أقدم عليه من ضمّ شبه جزيرة القرم والتدخل إلى جانب الانفصاليين في أوكرانيا، تعطي انطباعا بأنّها مرتاحة إلى تداعيات تلك الأزمة.
قد يكون هذا الأمر منطقيا لو أنّ واقع الاقتصاد الروسي منفصل تماما عن مجريات وتطورات النظام الاقتصادي الرأسمالي العام في العالم. ولو أنّه كان كذلك لما وقع في هذه الأزمة من الأساس. لذلك فإنّ الحكومات الغربية تحاول إخفاء حذرها من تفاقم هذه الأزمة، على الأقل راهنا، غير أنّ اعتقاد ذات المراقبين يجزم بأنّها ستطرح على الروس مدّ يد العون في حال تمادي أزمتهم. ولكن قبل ذلك، هل سيقدم الرئيس بوتين تنازلات في الأزمة الأوكرانية؟ وهل سينسحب من شبه جزيرة القرم؟
مما لا شك فيه أنّه لا يمكن بسحر ساحر تغيير نمط الاقتصاد الرأسمالي من ريعي إلى صناعي وزراعي، وبالأخص عندما ينخره الفساد المافيوي، وهذا، في حال الإصرار عليه ورضوخ الطبقة الريعية المسيطرة له، سيحتاج إلى خطط خماسيّة وعشرية. في حين أنّ مجرد إعلان يؤشر على تراخي دول الغرب في تنفيذ العقوبات أو عودة أسعار النفط إلى التّحسن سيكون له تأثير مباشر على سعر صرف الروبل وعلى الروح المعنوية لنظام بوتين. لكن الأمر مرتبط بتنازلات، خاصة في موضوع العقوبات، ولا يبدو أن بوتين متّجه إلى تقديم مثل هذه التنازلات. فإلى أين تتّجه روسيا؟ وما هي الآفاق التي تتحضّر لها في حال استمرار تفاقم الأزمة المالية والاقتصادية، وهي ستتفاقم، وبالتالي تزايد آثارها على القاع الاجتماعي المأزوم أصلا؟
أسئلة عدّة يطرحها الخبراء والمحللون ربّما لن يطول انتظار الإجابة عنها في ظل النسق المتسارع الذي تسير وفقه الأحداث.