أزمات متواصلة تلاحق الأحزاب التونسية

تونس – تعيش الساحة السياسية في تونس على وقع تطورات مهمة ومتلاحقة قد تغيّر المشهد بشكل كبير، خصوصا بعد إعلان عدد كبير من القيادات المستقيلة سابقا من حزب نداء تونس سعيها إلى إعادة ترتيب البيت الداخلي والدفع نحو تجريد المدير التنفيذي للحزب الحاكم حافظ قائد السبسي من كافة صلاحياته وطرد من يسمونهم بالمنتدبين الجدد الذين انخرطوا في الحزب عقب أزمة الانشقاقات التي لحقت به مباشرة عقب فوزه في العام 2014 بالانتخابات التشريعية والرئاسية.
تفرض التغيّرات الجديدة المرتقبة والتي قد تطرأ في الأيام القليلة القادمة على الخارطة السياسية التونسية وجوبا البحث عن الأسباب العميقة التي أدت – في ثماني سنوات فقط عقبت ثورة يناير 2011- إلى ميلاد أحزاب تمكنّت في وقت وجيز من الوصول إلى السلطة ولكنها تفككت أو انقرضت بسرعة من المشهد.
وفي علاقة بالتحولات الجديدة، لا يختلف عاقلان حول حقيقة مفادها أن حزب نداء تونس المتخبّط منذ عام 2015 في أزمات تكاد تعصف بوجوده في المشهد السياسي بالبلاد عرف أوجه وقوته منذ تشكيله عام 2012 على يد مؤسّسه رئيس الجمهورية الحالي الباجي قائد السبسي رفقة قيادات أخرى وازنة سليلة روافد فكرية مختلفة يمينية ووسطية ويسارية.
ويجمع مراقبون على أن مردّ السقطات المتكررة لحزب نداء تونس هو عدم توفّر أي مشترك فكري يكون جامعا لكل قياداته أو قواعده مختلفة التوجهات، إلى جانب دخول قياداته في مستنقع حروب الزعامة التي أدّت بالنهاية إلى تشرذمه وانفراد حافظ قائد السبسي، المدير التنفيذي للحزب، نجل الرئيس بالتحكّم في كل خياراته وسياساته.
علاوة على كل الحروب الداخلية التي نخرت الحزب، فإن من بين الأسباب السياسية العميقة التي أدخلته في نفق مظلم ومجهول المصير، تكمن حتما وفق الملاحظين في الدخول في تحالف ثنائي مع حركة النهضة الإسلامية إبان انتخابات 2014 رغم الخلافات والاختلافات والصراعات التي دارت بينهما منذ تأسيس نداء تونس.
ورغم أن نداء تونس بقيادته الحالية حاول التدارك بخلط الأوراق مجددا عبر إعلانه فك التحالف مع النهضة قبل الانتخابات المحلية الأخيرة عقب القيام بجملة من التقييمات لمساره السياسي، فإن كل محاولاته باءت بالفشل إما لأنها أتت متأخرة وإما بسبب قدرة الحزب ذي التوجهات الإسلامية على مسايرة الأوضاع وانتظار الفرصة السانحة لمزيد إغراق أهم منافس سياسي في مصير غامض ومجهول في وقت تتهيأ فيه البلاد لتنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية في عام 2019.
أدى عدم توافق الأحزاب والمنظمات التونسية الموقعة على وثيقة أولويات الحكومة أو ما يعرف بوثيقة قرطاج2 حول مصير يوسف الشاهد وحكومته إلى تحوّل السجال والنقاش من وطني عام إلى حزبي ضيّق ومتمحور بالأساس حول مستقبل نداء تونس
ومع مزيد تأزم الوضع صلب الحزب الحاكم، أكدت قيادات مستقيلة من الحزب وهم لزهر العكرمي وعبدالستار المسعودي والصحبي بن فرج في تصريحات لـ”العرب” أن نداء تونس بشكله الحالي فكريا وتنظيميا لن يكون قادرا على المنافسة في أي انتخابات قادمة.
وأرجعوا كل الأزمات التي شقّته إلى ما أسموه بـ”سطو نجل الرئيس على كل مقاليده” وإلى “عدم موافقة مليون شخص من قواعده على التحالف والالتصاق بمشروع حركة النهضة الإسلامي”.
كما بينوا أن “لحركة النهضة نصيب كبير في انقسامات الحزب الحاكم عبر مواصلتها انتهاج نفس السياسة المعتمدة من قبلها منذ العام 2011 والرامية إلى الاقتراب من أي خصم أيديولوجي بهدف تفكيكه وزعزعة استقراره”.
النهضة تلعب ورقة الشاهد
بالعودة إلى حيثيات الأزمات التي شقّت نداء تونس منذ أواخر عام 2014، يتبين أن حركة النهضة المتهمة من المنسلخين عن الحزب الحاكم بتعمّد تفكيك النداء تمسكت في كل خطاباتها وبياناتها السياسية المعلنة بالنأي عن الدخول في صراعات شريك الحكم خاصة عقب نجاحها وفق جل المتابعين في الدفع إلى المزيد من التقارب مع حافظ قائد السبسي الذي أعلن أكثر من مرة أن للحزبين جدّ مشترك وهو المناضل الوطني عبدالعزيز الثعالبي (شيخ محافظ من مؤسسي الحزب الحر الدستوري في عشرينات القرن الماضي).
ومع انقطاع حبال الود والتقارب بإعلان حافظ قائد السبسي وكل قيادات نداء تونس فك الارتباط مع الحزب الإسلامي، وظّفت حركة النهضة وفق كل الملاحظين بطريقة متعمّدة الخلافات حول مصير يوسف الشاهد وحكومته لسببين أساسيين أولهما يتعلّق بمخاوفها من الأسماء المقترحة من قبل نداء تونس لخلافة الشاهد. أما السبب الثاني فهو وليد إدراكها لحجم الخلافات والصراعات الداخلية صلب حزب نداء تونس وخاصة بين يوسف الشاهد وحافظ قائد السبسي.
ويقول لزهر العكرمي إن حركة النهضة وصلت إلى تحقيق هدفها غير المعلن وهو تصفية حركة نداء تونس من كل القيادات القادرة على منافستها فكريا وأيديولوجيا. في نفس السياق، أكد نداء تونس هذه الرواية باتهامه حركة النهضة في بيان رسمي عقب تشبثها برئيس الحكومة يوسف الشاهد بتوخي سياسة الابتزاز السياسي في إشارة واضحة إلى كونها تريد توظيف الملف لشق صفوف الحزب الحاكم.
ويرى مراقبون أن حركة النهضة تلقّت هدية ثمينة من أحد أهم الخصوم السياسيين وأنها تستميت في التمسك بالشاهد رئيسا للحكومة قبيل عام من الانتخابات التشريعية والرئاسية عام 2019 لعلمها بما يحصل في كواليس نداء تونس المنقسم إلى شطرين أحدهما مساند لحافظ قائد السبسي والثاني مصطف وراء يوسف الشاهد.
وفي مساع لتجنّب سيناريو انقراض نداء تونس واستفراد النهضة بالمشهد السياسي في ظل ضعف بقية الأحزاب الأخرى حكما ومعارضة، يحاول الرئيس الباجي قائد السبسي وفق ما أسرّت به مصادر مطلّعة لـ”العرب” تدارك الوضع عبر إعطائه الضوء الأخضر لقيادات مستقيلة ولها حجم سياسي ونضالي وعلى رأسهم الأمين العام للاتحاد المغاربي الطيب البكوش لإعادة هيكلة الحزب حتى وإن كان ذلك على حساب مصالح أو وجود نجله حافظ قائد السبسي المرفوض بإجماع من المنسلخين عن الحزب سابقا.
الإقتراب من النهضة احتراق
بغض النظر عن الأسباب أو المسببات المتراكمة التي أدت إلى تقهقر حزب نداء تونس أو مساهمة تكتيكات حركة النهضة في ذلك، فإن قراءة بسيطة في تطورات المشهد السياسي التونسي منذ ثورة يناير 2011، تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن تراكم التجارب يثبت أن كل الأحزاب بيمينها ويسارها التي اقتربت أو تحالفت مع النهضة انقرضت أو تفككّت إلى حُزيبات صغيرة لا وزن سياسي لها.
ويرى مراقبون أن جل الأحزاب السياسية في البلاد لم تتعّظ من تجارب سابقة بل تشبّثت بالسير في مواصلة نفس الخطأ المبني أساسا على ضيق في الرؤى والتصورات أو على تكالب على السلطة دون النظر إلى النتائج التي تعقب التقارب مع خصم سياسي إسلامي له أدبيات واضحة في تصفية الخصوم.
منذ أن نجحت حركة النهضة في أول انتخابات تشريعية عقب سقوط نظام زين العابدين بن علي اختارت اللجوء إلى سياسة التحالفات بسبب إكراهات الصندوق الذي لم يمنحها أغلبية مريحة أو نتيجة لتعمّدها تجنّب تحمّل نتائج وأعباء الحكم لوحدها.
وفي كل المراحل التي حكمت فيها النهضة على أساس التحالفات تفكّكت كل الأحزاب التي اقتربت منها ويبقى على رأسها حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي كان يترأسه الرئيس السابق المنصف المرزوقي أو حزب التكتل من أجل العمل والحريات الذي يقوده رئيس المجلس التأسيسي السابق مصطفى بن جعفر.
ورغم تأكيد المنصف المرزوقي ومصطفى بن جعفر في أكثر من مرة أن من أهم أسباب تشرذم وانشطار حزبيهما إلى أحزاب صغيرة هو تحالفهما غير المنطقي مع النهضة، فإن أحزابا أخرى كرّرت وفق الملاحظين نفس الخطأ بدخولها في ائتلاف حاكم معها ومن أهمها نداء تونس.
غير بعيد عن نداء تونس، يعيش حزب المسار الديمقراطي الاجتماعي (أقدم حزب يساري في تونس تأسس عام 1920) الذي ارتمى في أحضان السلطة رغم خلافاته الأيديولوجية العميقة مع حركة النهضة على وقع انقسامات عدّة بسبب رفض قيادات تاريخية له التحالف مع حزب إسلامي عبر حقيبة وزارة الفلاحة التي يتقلدها أمينه العام سمير الطيّب.
بدوره مازال الحزب الجمهوري (الحزب الديمقراطي التقدّمي سابقا) يتخبّط في مأزق دخوله في تحالف مع النهضة ممّا أضعفه وجعله يفقد خزانا كبيرا من أنصاره خصوصا عقب بروز انقسامات صلبه أدت بالنهاية إلى استقالة أحد أهم قياداته إياد الدهماني الناطق الرسمي باسم حكومة الوحدة الوطنية المتمسّك بمواصلة تجربة الحكم.
التغيرات التي قد تطرأ في الأيام القادمة على الخارطة السياسية التونسية تفرض البحث عن الأسباب العميقة التي أدت إلى تفكك الأحزاب
كما ساهم الانخراط في ائتلاف حكومي من بين أضلاعه النهضة في تشتيت حزب آفاق تونس الذي وجد نفسه بمجرّد مغادرته وثيقة قرطاج ممزقا وغير موحد حتى صلب كتلته البرلمانية عقب موجة الاستقالات التي شملته إما بسبب اتهامات لرئيسه ياسين إبراهيم بالسطو على الحزب أو بسبب رفض عشرات القيادات صلبه منذ البداية انخراط حزبهم الليبرالي الحداثي في ائتلاف تقوده حركة النهضة.
بعيدا عن أحزاب الحكم، تظهر العديد من تجارب المقارنة الأخرى، أن حركة النهضة باتت بمثابة اللاعب الرئيسي في المشهد السياسي التونسي، فالعديد من الشخصيات السياسية الوازنة فقدت رصيدها بمجرّد التقائها أو تقاطعها في بعض الملفات مع الحزب الإسلامي وفي مقدّمتهم أحمد نجيب الشابي الذي كان وفق العديد من الملاحظين على وشك نيل السلطة عام 2011 لولا اقترابه من الإسلاميين.
كما يجابه إلى اليوم الناطق الرسمي للجبهة الشعبية حمة الهمامي، أحد أهم خصوم النهضة، وفق الكواليس الداخلية لأهم تجمع لأحزاب يسارية في البلاد، بانتقادات حادة من قبل منافسيه على زعامة الجبهة بسبب قبوله قبل الثورة وضع يده في يد رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي في ما يعرف بجبهة 18 أكتوبر 2005 (جبهة الحقوق والحريات).
ويرجع جل الملاحظين تواجد حركة النهضة في كل هذه المطبات التي حفت بجل الأحزاب لقدرتها على اختراق أي نسيج سياسي عبر مهادنتها أو بإضمار الشيء وإعلان نقيضه لتصبح في النهاية رقما سياسيا يصعب مقارعته.
وتشير العديد من القراءات، إلى أن حركة النهضة لا تكتفي بتكتيكاتها القائمة على تفكيك الأحزاب بل تسعى موازاة مع ذلك إلى اختراق المنظمات الوزانة في البلاد وفي مقدمتها الاتحاد العام التونسي للشغل الذي حاولت دخوله بقوة عبر زرع قواعدها صلبه خلال مؤتمره الـ23 الذي منح القيادة لأمينه العام الحالي نورالدين الطبوبي
ومع تمسّك النهضة بيوسف الشاهد ودفع المنظمة النقابية إلى عكس ذلك، تجابه المركزية أي المكتب التنفيذي للمنظمة الشغيلة بعدة انتقادات من منظوريها بسبب قبولها منذ البداية المشاركة في وثيقة قرطاج مع حزب النهضة الذي يعتبر أحد أهم خصوم الاتحاد خلال فترة حكم “الترويكا” من 2011- 2013.