أرزة لبنان تفقد نضارتها قبل الأوان

التغيير المناخي والحشرات يطاردان الشجرة المعمرة في لبنان وسط انشغال حكومي عن ضبط الخطط لإنقاذ غابات البلاد.
الخميس 2018/11/29
الشجرة المعمرة تموت من قلة الثلج

ظاهرة الاحتباس الحراري  تهدد شجرة الأرز المعمرة في لبنان، والتي أدت إلى نقص الثلوج التي تحتاج الشجرة الى الحد الأدنى منها للحصول على تجدد طبيعي، إضافة إلى الحشرات التي يتسارع معدل نموها ما أدى إلى ضعف شجرة الأرز، وصارت أكثر عرضة للأمراض الأخرى والحشرات، التي ستقتلها في غياب الجدية من قبل الحكومة المنشغلة بالحسابات السياسية.

تنورين (لبنان) – في محمية تنورين في شمال لبنان، يغزو اللون الرمادي بعض أشجار الأرز، لا بفعل حريق التهم أغصانها المترامية بل جراء الاحتباس الحراري الذي يحولها حطبا.

مع ارتفاع درجات الحرارة من جهة وتراجع هطول الأمطار وتساقط الثلوج من جهة أخرى، باتت أشجار الأرز التي يُعرف بها لبنان ويطلق على بعض منها تسمية “أرز الرب”، عُرضة لحشرات تتسبب كل عام بيباس أشجار لا تزال يافعة.

على ارتفاع 1800 متر، تنهش حشرة الأرز المنشارية أشجار محمية تنورين على غرار غابات أخرى تنتشر في شمال لبنان. تظهر الأشجار المريضة واضحة للعيان، ومن الممكن بسهولة تمييزها عن أخرى خضراء نابضة بالحياة إلى جانبها.

ويقول الخبير في علم الحشرات والغابات نبيل نمر “يبدو وكأن حريقاً اجتاح الغابة” إذ تبدو الأشجار المتآكلة رمادية وهزيلة لا حياة فيها. منذ التسعينات، تنمو حشرات الأرز المنشارية في غابة تنورين، تعيش على أشجارها وتحولها إلى جماد.

وألمح النمر إلى أن من أخطر الحشرات على أشجار الأرز في لبنان، هي “سيفالسيا تانورينينسيس”، التي يكثر نشاطها بسبب تغير المناخ، وقلة الثلج، وانخفاض الرطوبة في الصيف.

محاولات لإنقاذ "أرز الرب"
محاولات لإنقاذ "أرز الرب"

وتبيّن التقارير  أنّ محمية أرز تنورين  فقدت أكثر من 7 في المئة من أشجارها بسبب انتشار الحشرات الناتجة عن المناخ الحار والجاف.

ويقول نمر، وهو عالم حشرات لبناني، إن من عام 2006 وحتى عام 2018 قتلت الحشرات 7.5 في المائة من أشجار غابة تنورين الشابة، مشيرا إلى انه في العام 2017 وحده، يبست 170 شجرة كليا وتحولت إلى حطب في تنورين.

يحفر نمر سنتيمترات قليلة في التراب تحت إحدى الأحجار لتظهر حشرات الأرز المنشارية الخضراء اللون وحولها إبر الأرز اليابسة المتساقطة أرضا. وشهدت أشجار الأرز في لبنان الكثير من العصور عبر التاريخ، منها الفينيقيين الذين استخدموها لبناء سفنهم، وكذلك المصريين القدماء، الذين كانوا يستخدمون صمغها في عمليات تحنيط موتاهم.

تهدد تلك الحشرات الصغيرة شجرة الأرز، التي اعتمدها اللبنانيون رمزا لبلادهم، كما الأشجار التي تنمو عليها، تتواجد حشرات الأرز المنشارية منذ آلاف السنين، لكن التغير المناخي جعلها أكثر خطورة.

في فصل الربيع، تبيض الحشرات على إبر الأرز الخضراء، لتنمو اليرقات عليها لاحقا وتتغذى منها لفترة شهر.

في العادة، كانت تلك الحشرات تبقى تحت الأرض لثلاث أو أربع سنوات كونها تفضل البرودة والرطوبة. لكن مع التبدل المناخي، تغيرت دورة عملها، وباتت تخرج من الأرض كل عام وبأعداد ضخمة، لتنهش بشكل أساسي الأشجار اليافعة التي يراوح عمرها بين 20 ومئة سنة.

وقد ارتفعت الحرارة في تنورين درجتين خلال العقود الثلاثة الماضية، وفق نمر، وترافق ذلك مع تراجع هطول الأمطار وتساقط الثلوج، يقول نمر “الجفاف أفسد نمط حياة تلك الحشرات”.

ولمواجهة تلك الظاهرة، بدأت السلطات اللبنانية منذ العام 1999 بإرسال مروحيات لرش المبيدات فوق غابات الأرز. نجحت تلك المساعي لبضع سنوات في تفادي جفاف المزيد من الأشجار، إلا أن الحشرات القاتلة عادت لتنمو بكثرة خلال السنوات الأربع الماضية. ولم يعد بمقدور السلطات اللجوء إلى الحل ذاته، وفق قوانين جديدة للحد من استخدام المبيدات الكيميائية.

لم يجد الخبراء حلا آخر سوى وضع نوع من الفطريات في التربة يقتل الحشرات المختبئة، لكنها تبقى محاولة يتيمة أقل فعالية وبحاجة إلى الكثير من التمويل واليد العاملة والمختبرات المتخصصة.

170 شجرة أرز يبست كليا سنة 2017 وتحولت إلى حطب في تنورين

وكان للحكومة اللبنانية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي خطة إعادة زراعة الكثير من أشجار الأرز لكن الحرب الأهلية التي استمرت 15 عامًا حرقت الخطة. ومنذ 4 أعوام، بدأت وزارة الزراعة خطة جديدة لزراعة 40 مليون شجرة، بما فيها بعض أشجار الأرز. إلا أن الانقسامات السياسية جعل الحكومة عاجزة عن وضع خطة رئيسية قابلة للتنفيذ من أجل حماية أشجار الأرز.

ويرى نبيل النمر، أن المعركة من أجل الحفاظ على شجر الأرز يمكن أن تكون محبطة، موضحا أنه في الوقت الذي تشعر فيه الحكومة اللبنانية بالقلق من تهديد شعارها الموجود على علم الدولة، فلم يتم القيام بما يكفي من جهود لوقف إزالة الغابات وزراعة أشجار أرز جديدة. ويدعو نمر السلطات إلى تكريس المزيد من الجهود لحماية الأرز، ويطمح إلى تشكيل دائرة حكومية مخصصة “لصحة الغابات”.

وتغطي الغابات، التي تتنوع أشجارها بين أرز وصنوبر ولزاب أو غيرها، 13 بالمئة من مساحة لبنان بما يعادل حوالي 140 ألف هكتار، وفق وزارة الزراعة.

لكن يبدو مستقبل تلك الغابات قاتما، فبالإضافة إلى التوسع العمراني الحرائق التي تلاحقها، من المتوقع أن ترتفع الحرارة مجددا بمعدل درجة مئوية أو درجتين بحلول العام 2050.

ويشرح مدير برنامج الأراضي والموارد الطبيعية في جامعة البلمند جورج متري، أن “التغير المناخي يُضعف مناعة الغابة من ناحية تجددها أو مقاومتها للحشرات والأمراض، وبالتالي يصبح تجددها طبيعيا أمرا صعبا”.

يذكر أن أشجار الأرز تقلصت مساحتها إلى 2000 هكتار تقريبا، بعدما كانت نصف مليون هكتار، كما أنه تم إضافتها إلى قائمة “الاتحاد العالمي للمحافظة على البيئة”، الحمراء للأنواع المهددة.

دخلت السلطات اللبنانية في سباق مع الوقت لإنقاذ غاباتها وعلى رأسها أشجار الأرز.

"سيفالسيا تانورينينسيس" أخطر الحشرات على شجرة الأرز
"سيفالسيا تانورينينسيس" أخطر الحشرات على شجرة الأرز

وأطلقت وزارة الزراعة في نهاية العام 2012 مشروعا طموحا لزراعة 40 مليون شجرة مختلفة الأنواع على مساحة 70 ألف هكتار، على ما يقول شادي مهنا مدير التنمية الريفية و الثروات الطبيعية في وزارة الزراعة.

ونجحت الوزارة حتى الآن، بحسب قوله، بزراعة “بين مليوني وثلاثة ملايين شجرة”. من المفترض أن تنتهي الوزارة من تنفيذ المشروع في العام 2030، لكن يبدو أن الأمر سيستغرق وقتا إضافيا.

ويبدي مهنا تفاؤلا في قدرة المشروع على تحقيق تغيير إيجابي خلال السنوات العشرين أو الثلاثين المقبلة، آملاً أن يؤدي إلى ارتفاع في معدل الرطوبة وانخفاض في الحرارة.

وتعمل وزارة الزراعة في مشروعها لإعادة التشجير بالتنسيق مع منظمات من المجتمع المدني وناشطين ومواطنين معنيين بالشأن البيئي.

في محمية جاج في شمال البلاد، وبمبادرة من جمعية “جذور لبنان” وبالتعاون مع الجيش اللبناني، اجتمع قبل أيام عشرات الفتيان والفتيات من الكشافة لزراعة 300 شجرة أرز جديدة.

في منطقة تنتشر فيها أشجار يتخطى عمرها 500 عام، يمسك الفتيان والفتيات شتول أرز صغيرة لا تتخطى بضعة سنتيمترات، يغرسونها في التربة قبل أن يحيطوها بأقفاص وبالحجارة لحمايتها من الثلوج والحيوانات.

منذ إنشائها في العام 2008، زرعت جمعية “جذور لبنان” 300 ألف شجرة في كل أنحاء البلاد.

وتقول إحدى مؤسساتها ماجدة أبو داغر “مرّت على هذه الشجرة ملايين السنوات، مرّ عليها الكثير ولدي أمل أن يتمكن هذا الأرز من تحمل التغير المناخي أيضا وأن يتأقلم معه”.

20