أردوغان يعزز نفوذه غرب البلقان على حساب أوروبا

سمح عدم الاهتمام الأوروبي بمنطقة غرب البلقان لتركيا ببناء خارطة نفوذ قوية في المنطقة الاستراتيجية الهامة على الحدود الشرقية للاتحاد الأوروبي، وهو نفوذ يمنح أنقرة أوراق ضغط هامة يمكن توظيفها للمساومة على ملفات إقليمية أو داخلية كلما استدعت الحاجة ذلك.
تيرانا (ألبانيا) - افتتح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في ألبانيا الاثنين مسجدا عثمانيا وأشرف على تسليم 522 وحدة سكنية بتمويل تركي لعدد من المحتاجين في تيرانا، في خطوة يؤكد مراقبون أنها تندرج ضمن الدبلوماسية التركية الناعمة لتعزيز النفوذ في منطقة غرب البلقان الاستراتيجية وسط انكفاء أوروبي على حدوده الشرقية.
وقال أردوغان الذي وصل إلى ألبانيا الاثنين في زيارة رسمية إن بلاده تهدف إلى رفع حجم التجارة مع ألبانيا إلى نحو مليار دولار في أقرب مدة ممكنة، لافتا إلى أن تركيا جزء لا يتجزأ من البلقان التي تعتبر منطقة لا غنى عنها بالنسبة إليه.
وأعرب عن اعتقاده بأن زيادة الازدهار والاستقرار في ألبانيا ستخدم السلام والهدوء في المنطقة بأسرها، وقال ”وفي هذا الإطار، فإن تركيا ستواصل دائما وبكل حزم دعمها من أجل تطور وأمن ألبانيا الصديقة والشقيقة”.
وطوال السنوات الماضية ترك الاتحاد الأوروبي دول البلقان الاستراتيجية على حدوده الشرقية خارج أولوياته، مركزا في دعمها على كبح تدفق المهاجرين إليه، ما ترك فراغا كبيرا استثمرته أنقرة في بناء شبكة نفوذ واسعة تعززت معها أدوات الضغط التركية على الخصوم الأوروبيين.
الاتحاد الأوروبي ترك فراغا كبيرا في الجناح الشرقي أحسنت انتهازه تركيا في تعزيز موطئ قدم لها هناك
وتسعى أنقرة بسياستها الخارجية لتوسيع رقعة تأثيرها السياسي من خلال استخدام العامل العرقي الذي يجمع الكثير من شعوب المنطقة المجاورة وصولا إلى العامل الديني المذهبي الذي بات وسيلة تركية هامة للتوسع الجغرافي السياسي على الحدود الشرقية لأوروبا، بعد أن استكملت بناء خارطة نفوذ في كل من سوريا والسودان والصومال.
وتبدو استثمارات تركيا في ألبانيا انتقائية ومُركّزة استراتيجيا بحيث يكون لها الأثر الاقتصادي والسياسي الأعظم على السوق المالية وكذلك المشاريع الوطنية الكبرى.
ولأكثر من عقد استثمر أردوغان بكثافة في نشر نفوذه بين الألبان وذلك من خلال بناء المساجد والمدارس التركية وتمويل وسائل الإعلام والمؤسسات الدينية والأحزاب السياسية في الآونة الأخيرة التي يسيطر عليها مباشرة أقرباؤه، وزاد بشكل جوهري تأثيره على المجتمع الألباني.
وتوضح البيانات ذات العلاقة أنّ تركيا قد استثمرت في ألبانيا ما يزيد على 600 مليون دولار خلال السنوات العشرين الماضية، في مجال استصلاح الأراضي والقروض المالية والمساعدات الحكومية المباشرة وغيرها.
وتحتل تركيا المرتبة الثالثة شريكا في مجال التجارة مع ألبانيا بعد إيطاليا واليونان. ويبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين قرابة 420 مليون دولار، وتطمح تركيا إلى رفع هذه القيمة إلى خمسة أضعاف في السنوات القليلة المقبلة.
ويرى محللون أن الاتحاد الأوروبي أخطأ حين ترك دول غرب البلقان خارج إطار اهتماماته وأولوياته طوال العقود الماضية، وركّز بصورة أساسيّة على دول غرب أوروبا ووسطها، واكتفى بضمّ بلغاريا ورومانيا في شرق القارة للاتحاد.
ويشير هؤلاء إلى أن الاتحاد ترك بذلك فراغا كبيرا في الجناح الشرقي، أحسنت انتهازه تركيا في تعزيز موطئ قدم لها هناك، كما أحسنت اغتنام الفرصة الجيوسياسية المتاحة.
وينظر دبلوماسيون غربيون في انضمام ألبانيا إلى الاتحاد الأوروبي على أنها زيادة لأدوات الضغط التركي على هذا الاتحاد الذي ضعُف بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
ونبّه عضو المعارضة ديشامير شيهي البرلمان من غزو أردوغان في ألبانيا، قائلا “أنا ضد توسع الوجود التركي في ألبانيا. لا أريد استثمارات تركية واضطرابات السياسة التركية في بلدنا. يتحكم الأتراك في خامات الكروم والألمنيوم والمدارس والمطارات. نحن نهدف تجاه أوروبا وليس الشرق“.
وتدرك أوروبا أن هدف أردوغان الواضح هو إعادة بناء قوة عثمانية جديدة في المنطقة تتحدى القيم الغربية بشكل مباشر. وفي وقت سابق عبّر النائب ألبارسلان كافاكليوغلو بوضوح عن هذا الشعور بقوله “أوروبا ستكون مسلمة. سنكون فاعلين هناك، إن شاء الله. وأنا واثق من ذلك”.
ووجد تقرير نقدي من هيئة مراقبة الميزانية بالاتحاد الأوروبي أن تمويل الاتحاد لتحسين سيادة القانون في غرب البلقان له “تأثير محدود على الإصلاحات الأساسية”.
وقال جوهان بارتس المفتش بمحكمة المدققين الأوروبية في إفادة صحافية “من الواضح أن دعم الاتحاد الأوروبي لسيادة القانون في غرب البلقان لم يكن ناجحا في تحقيق تغيير شامل”.
وأكد تقرير المحكمة مخاوف الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بشأن أوضاع سيادة القانون في غرب البلقان والتي أدت إلى تجميد طموحات دول المنطقة في الحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي.
لأكثر من عقد يسعى أردوغان لنشر نفوذه بين الألبان وذلك من خلال بناء المساجد والمدارس التركية وتمويل وسائل الإعلام والمؤسسات الدينية والأحزاب السياسية
وقال التقرير إن عدم المشاركة والنهج غير المتباين يعنيان أن دعم الاتحاد الأوروبي لم يكن كافيا لتعزيز العزم السياسي لعلاج مشكلات مثل الفساد الممنهج واستقلال القضاء والتدخل السياسي في المنطقة.
وتشمل التقارير الخاصة ألبانيا ومقدونيا الشمالية اللتين تتمتعان بصفة مرشح رسمي وتنتظران بدء محادثات الانضمام، وكذلك مونتينيغرو (الجبل الأسود) وصربيا، وهناك مفاوضات مع البلدين حاليا بشأن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
ويؤكد مراقبون أنّ تركيا هي الصفقة الرابحة لدول البلقان. وفي ظل التوترات التركية الأوروبية، فإنّ تلك الدول عليها الاختيار ما بين الاستمرار في التقارب مع الدول الأوروبية أو تركيا، وهو ما يمكن أن يساهم في إشكالية تتعلق بتحديد التوجهات الجديدة لهذه الدول.
ومن المتوقع أن تشهد هذه المنطقة تصاعدا في التوترات، ولاسيّما أنّ دول منطقة البلقان يتمّ استخدامها وتوظيفها في السياسة التركية لمقايضة الدول الأوروبية على الكثير من القضايا المشتركة.
ويُعتبر ملف اللاجئين أحد أبرز الأسلحة التي تشهرها تركيا في وجه أوروبا كلما دعت الحاجة، حيث تبتزّ أنقرة أوروبا بموجات من النازحين تجتاح القارة مقابل الحصول على أموال، أو مواءمات سياسية، وقد فتحت تركيا مرارا حدودها مع اليونان أمام الآلاف من اللاجئين.
وتُعدّ ألبانيا من الدول ذات الأهمية الكبرى بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، وخاصة في ما يتعلق بقضية اللاجئين، ولعل اتفاق كل من تركيا وألبانيا على توطين اللاجئين في المقاطعات والمدن في جنوب ألبانيا ذات الأغلبية اليونانية من شأنه المساهمة في تغيير ديموغرافية هذه المنطقة في تحد واضح لليونان من جانب، ومن جانب آخر ضمان امتلاك ورقة ضغط من جهة جغرافية مختلفة على دول الاتحاد الأوروبي.