أربعينية الراحل هيثم الزبيدي تتحول إلى مجلس احتفاء بإرثه الإنساني

محمد الهوني: علّمنا هيثم أن النُبل لا يحتاج ضجيجا، وأن القيادة الحقيقية لا تُفرض، بل تُلهم، منال الزبيدي: كان جميع الناس عند هيثم يستحقون أن يكون كريما معهم
السبت 2025/06/28
الأستاذ محمد الهوني ومنال الزبيدي يؤكدان على إرث الراحل هيثم الزبيدي
تحولت الكلمات التي تليت باللغتين الإنجليزية والعربية في أربعينية الراحل هيثم الزبيدي إلى مجلس فخر مفعم بالعاطفة، حيث أجمع المتحدثون على الأثر الأخلاقي والإنساني والاجتماعي الذي تركه الزبيدي.

لندن - أغدقت الأمسية الاستذكارية للراحل الدكتور هيثم الزبيدي رئيس مجلس إدارة مؤسسة “العرب” بالعواطف التي اشترك فيه أعضاء أسرة الراحل ورئيس تحرير صحيفة “العرب” الأستاذ محمد الهوني، فضلا عن أقرب أصدقاء وزملاء الراحل الذي ودعنا في السابع عشر من مايو الماضي عن عمر 61 عاما.

وأقيمت الأمسية في أربعينية الراحل الزبيدي بالعاصمة البريطانية لندن مساء الخميس بحضور أفراد من أسرة الراحل ونخبة من إعلاميين وشخصيات اجتماعية من أبناء الجالية العربية في العاصمة البريطانية.

وتحولت الكلمات التي تليت باللغتين الإنجليزية والعربية إلى مجلس فخر مفعم بالعاطفة في استذكار الراحل هيثم الزبيدي، حيث أجمع المتحدثون على الأثر الأخلاقي والإنساني والاجتماعي الذي تركه الراحل.

ووزع أثناء الأمسية كتاب الدكتور هيثم الزبيدي “شاهد على العصر الرابع: في نقد الحاضر والسؤال عن المستقبل” الذي جمع فيه كل المقالات التي كتبها على مدار سنوات في مجلة “الجديد” وصدر عن دار “رامينا”.

كما وزعت طبعتان من كتاب “هيثم الزبيدي: شهادات عن رحيل ملامحه البقاء” جمع فيه صديق رحلته كرم نعمة جميع المقالات التي كتبت من قبل صحافيين وكتاب عراقيين وعرب بعد رحيله ونشرت في صحيفة “العرب” والمطبوعات والمواقع الأخرى. وصدر الكتاب بطبعتين عن دار “خريف للنشر” في تونس ودار “عناوين” في القاهرة.

وبدأت الحفل التأبيني السيدة منال الزبيدي زوجة الراحل في استذكار علاقتهما الأسرية والاجتماعية، وأغدقت بالثناء على رفيق رحلتها وهما يعيشان حياة من الصعوبات في المهجر منذ وصولهما إلى بريطانيا في نهاية ثمانينات القرن الماضي.

واستذكرت علاقة زوجها مع الناس، كل الناس، حيث كان كريم النفس معهم ويتقاسم كل ما يملكه حيث يصر على أن جميع الناس يستحقون أن يكون كريما معهم.

وعرض في شريط مصور لمراحل من حياة الراحل هيثم الزبيدي منذ ولادته مرورا بحياته مع أفراد أسرته ودراسته في كلية الهندسة بجامعة بغداد حتى زواجه وسفره إلى لندن.

وأثار شريط الصور موجة من الألم بين الحاضرين من أصدقاء الراحل، حيث لكل واحد منهم شريط ذكريات مع هيثم الزبيدي.
وعبرت السيدة منال عن شكرها لكل من وقف مع أفراد أسرتها في مصابها المؤلم وهي تفقد أعز إنسان عاشت معه كل تلك السنين في العراق والمغترب.

وأكدت على أن إرث هيثم باق في ما تركه من أعمال إنسانية رائعة، كما أن الكتب التي صدرت له وعنه أفضل شاهد على إرثه الثقافي.

وعبر رئيس تحرير صحيفة “العرب” الأستاذ محمد الهوني في كلمته عن حزنه الشديد جراء الرحيل المبكر لصديق عمره وكأن الحياة لم تحتمل طاقته الكبيرة على العطاء.

وقال “في حضرة الغياب، نحتاج إلى أكثر من الكلمات، لكننا لا نملك سواها لنحفظ بها المعنى ونقاوم النسيان.”

وأضاف “رحل تاركا وراءه ليس فقط سيرة مهنية مبهرة، بل أثرا إنسانيا عميقا في كل من عرفه، أو حتى قرأ له ولم يلتقه أبدا.”

ووصف الهوني الزبيدي بأنه ليس مجرد رجل إعلام، بل كان مثقفا ملتزما ومفكرا حرا وعربيا غيورا على قضايا أمته، أحب العراق كما يحب الابن وطنا جريحا، ووقف مع قضايا شعبه بصبر وعناد في زمن عز فيه الوقوف. وحين اتسعت الفوضى وأطبقت العتمة، كان يؤمن أن الكلمة قادرة على أن تكون شمعة، وكان يحاول أن يشعله مهما كلفه ذلك من جهد أو تعب.

واختتم رئيس تحرير “العرب” كلمته المؤثرة بقوله “لقد علّمنا هيثم أن النُبل لا يحتاج ضجيجا، وأن القيادة الحقيقية لا تُفرض، بل تُلهم. لم يسع يوما إلى الأضواء، لكنها لحقت به لأنه كان يستحقها.”

وقالت ابنة الراحل دنيا الزبيدي “لم يكن والدي مجرد أب، بل كان حاميًا، ومرشدًا، ومُعيلًا، وشخصًا نظرت إليه دائمًا بإعجاب كبير. لم يكن يتحدث كثيرًا، لكن حبه كان واضحًا من خلال حضوره الدائم، وثباته، والأشياء اليومية التي كان يفعلها من أجلنا.”

واستذكرت دنيا طفولتها مع والدها بالقول “من أحبّ الذكريات في طفولتي، تلك التي قضيتها معه في السينما أو في المكتبة. لم تكن مناسبات كبيرة، لكنها كانت مميزة لأنها كانت بيني وبينه. سواء كنا نختار الكتب، أو نجلس بصمت جنبًا إلى جنب نشاهد فيلمًا، كانت تلك اللحظات تمنحني شعورًا عميقًا بالارتباط به وسأظل أحتفظ بها في قلبي إلى الأبد. كانت بسيطة، لكنها كانت تعني لي الكثير.”

وقالت “علّمني والدي الكثير، ليس بالكلمات دائمًا، بل من خلال أسلوب حياته. علّمني أهمية أن تفعل الصواب، حتى لو لم يركَ أحد، والقوة الهادئة التي تأتي من وجودك من أجل من تحب. لم يكن يسعى للمديح، لكنه كسب احترام كل من عرفه حقًا.”

وأكدت على أنه لم يكن مثاليًا، ولم يدّعِ ذلك. لكنه كان صادقًا. نزيهًا. وفيًا. وطيّب القلب. وهذا ما سأتذكره عنه دائمًا. واختتمت كلمتها بالقول “شكرًا لك يا أبي… على كل شيء.”

ووصف عمر والده بالشجاعة قائلا “هو شعر بالألم جسديًا، لكن أظن أن الجميع شعر به عاطفيًا. لم يُظهر أيّ خوف من مرضه، ولا من موته. حتى في النهاية.”

واستذكر جملته “‘لا بأس، إنه مجرد سرطان‘.. كان هذا ما يقوله لأفراد عائلتنا، وحتى للممرضين والأطباء الذين يظهرون له التعاطف أو القلق. نادرًا ما اشتكى من مرضه.”

وقال عمر “عندما تم تشخيصه لأول مرة، استغرق بعض الوقت قبل أن يُخبرنا. أراد أن يتحمل العبء وحده لبعض الوقت، ليجمع المعلومات من الأطباء بشكل صحيح، ويعرضها علينا بكل الحقائق. أخبرنا أنه سيقاتل حتى النهاية، وبالفعل فعل ذلك؛ خضع لحوالي 60 جلسة علاج كيميائي، وما يقارب 10 عمليات جراحية. وقد أبقى تشخيصه سراً عن معظم الناس لأنه لم يرغب في أن يقلق عليه أحد.”

واختتم كلمته بالقول “أتمنى لو كان لدينا وقت أطول معه، لكنه عاش حياة مذهلة، رغم أنها كانت قصيرة مقارنة بعمر الإنسان في زمننا هذا. لقد عاش حيوات متعددة في حياة واحدة. هناك مثل غربي يقول (من يعيش بسرعة، يموت شابًا)، وأظن أن والدي كان من تلك الحالات.”

أما جعفر نبيل الملا أحد أفراد العائلة الذي وصف الراحل هيثم الزبيدي بأنه أكثر من “عمو” بوصفه والد زوجته دنيا، قال “كان مرشدًا. خصمًا ودودًا في النقاش. مصدرًا للحكمة، مفعما بالسخرية والآراء القوية.”

وعبرّ عن اشتياقه لتلك اللحظات التي كان يدخل فيها ويجد الجميع ملتفين حوله. بسبب حضوره. هادئ، واثق، وحكيم بشكل لا يُنسى.

وأوضح “كنت أدخل في نقاشات معه كثيرًا. أبدأ بثقة وأفكار وحجج… وكان هو يجلس مبتسمًا، يستمع. ثم يفكك كل ما قلته بكلمتين. لا أظن أنني فزت أبدًا. ومع ذلك، أحببت الأمر، وهو كان يعلم. ثم يقدم لك درسًا، سواء طلبته أم لا.”

واختتم جعفر كلمته بقوله “ما سيبقى في داخلي دائمًا، هو نصيحته الأخيرة لي. حين رآني أشتكي، قال لي بكل حزم: كن إيجابيًا دائمًا. كن متفائلًا، مهما كانت الظروف. هذه هي الطريقة لتنجح.”

وأضاف “لم تكن مجرد كلمات. بل كان يُصر أن أسمعها. وأن أشعر بها. وبالفعل… شعرت بها. وعمي، هذه النصيحة، إن شاء الله، لن أتجاهلها هذا هو عمي هيثم… حتى في النهاية، كان يُعلّمنا.”

فيما استعاد زميل رحلته الطويلة كرم نعمة جانيا من تلك الرحلة التي امتدت إلى أكثر من ثلاثة عقود من أول لقاء جمعهما معا في بغداد في ثمانينات القرن الماضي حتى اجتمعا معا من جديد في لندن ولم يفرّقهما غير رحيل هيثم.

ووصف كرم نعمة كلمات أفراد أسرة هيثم الزبيدي بالعاطفية التي تجعل اللغة غير جديرة بالوفاء وتصل عاجزة للتعبير عمّا يكنّه لصديق رحلته في الحياة والعمل.

واستذكر كرم حكمة هيثم مع الآخرين وكيف أنه استذكر ما رواه من قصة طريفة عن جده ثابت النجار الذي فضل أن يقلع باب الغرفة كي يوقف جلبة الصغار في الدار من أجل أن يستمتع بقيلولة الظهيرة في أجواء بغداد. معتبرا ذلك مثالا لا يمكن الاقتداء به بأننا نقلع الأبواب كلما أردنا إيقاف الضجيج الذي يخلفه عند فتحه وغلقه، ففلسفة هيثم في الحياة والعمل هي ألاّ نصرخ، لأن عندها لا نجد من يسمعنا عندما نستمر في الصراخ.

ووصف الروائي السوري هيثم حسين الدكتور هيثم الزبيدي بالكريم في أخلاقه، مع من عرفه ومن لم يعرفه، مع من عمل معه ومن لم تجمعه به المهنة. وفاؤه لأصدقائه كان نبيلًا، واستقامته في علاقاته ظلّت علامة فارقة في شخصيته.

وتساءل هيثم حسين “كيف استطاع هيثم الزبيدي أن يجمع بين عوالم الأدب وعلوم المستقبل، بين التأمل في الماضي واستبصار ما هو آت.. كانت معرفته موسوعية من دون ادّعاء، وكان حضوره غنيّاً من دون صخب.”

وقال الكاتب العراقي فاروق يوسف في كلمته المؤثرة “كنت على يقين من أنني لن أذهب إلى الموت وحيدا. سيحف بي حنان هيثم الزبيدي وحبه وعاطفته وحرصه على العناية بأصدقائه في حياتهم وموتهم على حد سواء. وبما أن القدر فعل فعلته أقف أمامكم الآن في المكان الخطأ. غياب هيثم هو خطأ في المعادلات الرياضية التي يستند عليها عالم المشاعر.”

وأضاف “بعده صرت أشعر أن الحب في نقصان والجمال قليل والخيال بخيل. حتى معنى الحياة إذا كان لها معنى فهو في حالة فقدان.”

وقرأ برايت أميدوم وهو أحد الذين عملوا ورافقوا الراحل هيثم الزبيدي على مدار سنوات كلمة معبرة عن سنواته مع الراحل وكانت بمثابة قصيدة واصفا الحياة أشبه بقطار يمر بمحطات عديدة ويغادر فيه مسافرون ويصعد فيه آخرون. مطالبا بأن نترك في هذه الحياة أثرا إنسانيا كما فعل هيثم الزبيدي في رحلته بقطار الحياة.

ص 6