أخطر ما يستهدف الغرب أسلحة تصنع بتقنيات وإلكترونيات منسوخة عن الغرب

الغرب الذي ينتج أسلحة بتقنيات متطورة يجد نفسه في مواجهتها في معارك مع دول يعتبرها مارقة. والسبب هو استنساخ هذه الأسلحة وتحويلها من أسلحة خاصة بمنتجيها إلى ورقة ضغط ضده مثلما حصل في حرب أوكرانيا، حيث اعتمد الروس على أسلحة إيرانية وكورية شمالية معدلة بالاعتماد على تقنياته.
موسكو- كانت روسيا تتلقّى المساعدة من حلفائها طوال الفترة التي شنّت فيها حربا ضد أوكرانيا. وفي سبتمبر 2022، بدأت في نشر طائرات إيرانية مسيّرة هجومية أحادية الاتجاه. وبحلول مايو 2024، كانت تستخدم الصواريخ الكورية الشمالية لاستهداف محطات الطاقة الأوكرانية والمناطق السكنية والمواقع العسكرية.
وكانت حقيقة انتهاك روسيا التوسعية للاتفاقيات الدولية (وخاصة عقوبات الأمم المتحدة) من خلال استيراد الأسلحة من دولتين “مارقتين” من الأسباب التي أججت القلق العالمي. ولكن الأمر الأكثر إثارة للقلق هو ما كشف عنه حطام الصواريخ الروسية والإيرانية والكورية الشمالية، فهي تحتوي على إلكترونيات غربية مصنعة حديثا.
بعبارة أخرى، تنجح الأنظمة الأكثر خطورة في العالم في تصنيع أسلحتها الأكثر فتكا باستخدام مكونات من الديمقراطيات الصناعية المتقدمة، على الرغم من العقوبات الصارمة التي تهدف إلى منع مثل هذه الممارسات.
ولا يمكن تجاهل هذه الانتهاكات الجسيمة لسياسات العقوبات باعتبارها حوادث معزولة. وبدلا من ذلك، فإنها تسلط الضوء على الحاجة الملحة إلى إجراء إصلاح شامل لنظام مراقبة الصادرات لاستعادة فاعليته.

ستيفن ج. بروكس: هيمنة الديمقراطيات الناضجة على التقنيات الرئيسية ذات الاستخدام المزدوج قد تجعل حروب الغزو شيئا من الماضي
وذكر الباحث ستيفن ج. بروكس، في كتابه الذي صدر خلال 2007 بعنوان “إنتاج الأمن”، أن هيمنة الديمقراطيات الناضجة على التقنيات الرئيسية ذات الاستخدام المزدوج قد تجعل حروب الغزو شيئا من الماضي.
وتعتمد حتى أقوى الدول على المكونات الإلكترونية المستوردة لتصنيع أسلحة متطورة. وتصور بروكس أن تقييد الوصول إلى هذه المكونات يُمكّن الديمقراطيات الصناعية المتقدمة من منع المعتدين من تحقيق أهدافهم العسكرية، وإجبارهم في نهاية المطاف على تقليص طموحاتهم أو مواجهة الهزيمة العسكرية.
وتعتبر فرضية بروكس أن اعتماد القوى العظمى على سلاسل التوريد المعقدة يفضي إلى الاستقرار، حيث يردع دولا مثل روسيا أو الصين عن التصرف بناء على دوافعها التوسعية. وكان لفكرة السلام الفني هذه صدى مع تجربة الغرب خلال أواخر الحرب الباردة. وشهدت ثورات الإلكترونيات الدقيقة في السبعينات والثمانينات إنجازات في مجال الرادارات، والأسلحة الدقيقة، وإلكترونيات الطيران. وكان كل ذلك ممكنا بفضل أشباه الموصلات التي تنتجها الشركات اليابانية والأميركية والتايوانية والأوروبية.
وبذل الاتحاد السوفييتي جهودا متواصلة، لمواجهة آثار لجنة التنسيق متعددة الأطراف لضبط الصادرات (كوكوم)، التي شملت في النهاية 17 عضوا، منهم الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا واليابان.
وبما أن الاتحاد السوفييتي لم يتمكن من الحصول على المكونات الإلكترونية المتطورة، فقد تخلفت تقنيته العسكرية عن الركب. وأثّر إدراك القادة السوفييت لمحدودية بلادهم في سباق التسلح على قراراتهم في أواخر الثمانينات، مما دفعهم إلى تخفيف قبضتهم عن أوروبا الشرقية والتفاوض على اتفاقيات غير مسبوقة للحد من الأسلحة مع الولايات المتحدة.
وتشير هذه السوابق التاريخية إلى أن العدوان قد يؤدي إلى الهزيمة الذاتية في عصر الاعتماد التكنولوجي المتبادل. وأكدت البيانات الروسية هذا المنظور، حيث أظهرت أن الجيش الروسي كان يعتمد على الإلكترونيات المستوردة لحوالي 80 إلى 85 في المئة من احتياجاته قبل ضم شبه جزيرة القرم في 2014.
وتوقّع العديد من الخبراء لذلك أن تؤدي العقوبات على الأجهزة الإلكترونية ذات الاستخدام المزدوج إلى شل قطاع الدفاع الروسي قبل غزو أوكرانيا واسع النطاق.
لكن بعض المتشككين نظروا في فرضية بروكس، واعتبروا الدول قادرة على التخلي عن الإلكترونيات المتطورة أو استبدالها بمكونات صينية. وشارك هؤلاء افتراض بروكس بأن الديمقراطيات المتقدمة ستفرض عقوبات على الدول المعتدية، لكنهم أكدوا أن الأنظمة غير الليبرالية ستنتج بدائل مناسبة.
وقالت أولينا تريجوب، الأمينة العامة للهيئة المستقلة لمكافحة الفساد بأوكرانيا، ومارك ر. ديفور، المحاضر في جامعة سانت أندروز، في تقرير لفورين بوليسي، إن حقائق ساحة المعركة في أوكرانيا تجسّد ما كان مناقشات نظرية حول سلاسل التوريد الدفاعية والعقوبات. وأثبت فحص حطام صواريخ روسيا وإيران وكوريا الشمالية أن هذه الدول “المارقة” تظل تعتمد بشكل كبير على المكونات الإلكترونية القادمة من الديمقراطيات الصناعية المتقدمة.
◄ تقييد الوصول إلى التقنيات المتطورة يُمكّن الديمقراطيات الصناعية من منع المعتدين من تحقيق أهدافهم العسكرية
وفصّل جدول أنظمة الضربات بعيدة المدى التي تستخدمها روسيا ضد أوكرانيا، مع تفصيل مكوناتها الإلكترونية الأجنبية، بما في ذلك أنظمة الملاحة، ووحدات التوجيه عبر الأقمار الصناعية، وأشباه الموصّلات الحيوية. وتغطّي بياناته، المستمدة من تقارير معهد العلوم والأمن الدولي، وجلسة استماع لمجلس الشيوخ الأميركي في فبراير 2024، واللجنة المستقلة لمكافحة الفساد ومقرها أوكرانيا، جل الضربات الصاروخية والطائرات المسيّرة على المدن والبنية التحتية الأوكرانية. ولم تتحدد ثلاثة أنظمة معروفة (صاروخ كروز كيه إتش-55 وكيه إتش-555 وصاروخ أونيكس الذي تفوق سرعته سرعة الصوت).
ويلخّص الجدول نوعية الإلكترونيات الأجنبية في كل سلاح. وتضم قائمة الديمقراطيات الصناعية المتقدمة الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إضافة إلى تايوان.
وتكشف النتائج أن روسيا فشلت في تطوير صناعة محلية لأشباه الموصلات قادرة على إنتاج أنظمة توجيه لصواريخها. وفي 2022، عندما أوقفت الشركات الرائدة في تصنيع أشباه الموصّلات في العالم صادراتها إلى روسيا، استثمر المسؤولون الروس في خطط لبناء مصانع محلية جديدة. ومع ذلك، لم تحتو أنظمة توجيه الصواريخ التي جرى تحليلها على أشباه موصّلات روسية الصنع.
وبالمثل، وعلى الرغم من مكانة الصين بصفتها منتجة رئيسية لأشباه الموصّلات وتاريخها من قلة إنفاذ العقوبات، تظهر الإلكترونيات صينية الصنع في نظامين صاروخيين فقط (كيه-إتش-101 وكاليبر). ويحتوي كل منهما على ترانزستورات من شركة صينية.
واختار مصممو الصواريخ الروس والإيرانيون والكوريون الشماليون بأغلبية ساحقة الإلكترونيات المتفوقة المصنعة في الولايات المتحدة، أو أوروبا، أو اليابان، أو تايوان. وعمل باحثو اللجنة المستقلة لمكافحة الفساد على تحليل 2500 مكون موجود في الأسلحة الروسية وقرروا أن الشركات التي يوجد مقرها في الولايات المتحدة أنتجت 64 بالمئة من الأجزاء التي فُحصت.

أولينا تريجوب: فحص حطام صواريخ روسيا وإيران وكوريا الشمالية أثبت أن هذه الدول تظل تعتمد بشكل كبير على المكونات الإلكترونية القادمة من الديمقراطيات الصناعية المتقدمة
وكانت سويسرا ثاني أكبر مصدّر، حيث وُجدت الإلكترونيات السويسرية في جميع الأسلحة التي جرى تحليلها باستثناء واحدة. وينبع هذا الدور غير المتناسب جزئيا من شركة يو-بلوكس السويسرية التي تنتج أنظمة الملاحة عبر الأقمار الصناعية المخصصة للاستخدام المدني (للسيارات والدراجات الكهربائية. وتحظر الشركة استخدام منتجاتها في الأسلحة. ولكن يمكن تفكيكها وتكييفها للعمل مع الأقمار الصناعية العسكرية الروسية غلوناس.
وبعيدا عن الولايات المتحدة وسويسرا، نشأت مكونات إضافية من شركات في هولندا، وتايوان، واليابان، والسويد، وألمانيا، وكوريا الجنوبية، وإسبانيا، وكندا، حيث زودت كل منها مكونا إلكترونيا مهما واحدا على الأقل. وتصنف جل هذه الأجزاء أنظمة مزدوجة الاستخدام خاضعة للرقابة من المستوى 1 أو المستوى 3 بموجب اتفاق فاسينار لسنة 1996، الذي يحظر نقلها إلى الدول التي تهدد الأمن والاستقرار الدوليين.
وفي حين امتثلت الدول الصناعية المتقدمة بتقييد صادرات المكوّنات ذات الاستخدام المزدوج إلى روسيا، فإن الأدلة الميدانية تشير إلى أن هذه الجهود لم تكن كافية كما توقع بروكس.
وتشير هذه البيانات إلى نهاية السلام الفني في فترة ما بعد الحرب الباردة، وتقدم رؤى حول كيفية إحيائها.
وتبرز ثلاثة إخفاقات كبرى في النظام: غياب منظمة شاملة مثل كوكوم (لجنة التنسيق متعددة الأطراف لضبط الصادرات) لتنسيق إنفاذ العقوبات، وعدم فرض عقوبات على الشركات التي تفشل في بذل العناية الواجبة، والفشل في مساءلة الدول عن تسهيل التحايل على العقوبات.
ولعبت كوكوم دورا حاسما في تنسيق الضوابط التكنولوجية بين أعضائها، وضمان تنفيذ العقوبات المستهدفة في وقت واحد، ومنع التحايل السوفييتي. لكن حلها الطوعي في عام 1994 ترك فجوة فشل اتفاق فاسينار الأضعف، الذي انبثق سنة 1996، في سدّها. ويفتقر إطار فاسينار إلى الاجتماعات المنتظمة للجنة التنسيق وآليات التنفيذ التي كانت معتمدة، ما يترك للحكومات الديمقراطية صلاحية تنفيذ سياسات العقوبات بشكل فردي ومستقل. ويخلق هذا الفرص لروسيا وحلفائها لاستغلال الثغرات للوصول إلى الإلكترونيات الخاضعة للرقابة.
وحدد تقرير منفصل للجنة المستقلة لمكافحة الفساد 58 شركة روسية كبرى تستورد مكونات حيوية عبر دول ثالثة، ما يكشف عدم فاعلية العقوبات الحالية. وقد أدرجت الولايات المتحدة، التي تدير أكبر نظام بيروقراطي في العالم لتطبيق العقوبات، 34 من هذه الشركات على القائمة السوداء بحلول مارس 2024. وفرضت أوكرانيا عقوبات على 30 شركة. كما فرضت المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي وسويسرا عقوبات على أربع أو خمس شركات. ولم يعاقب حلفاء آسيا والمحيط الهادئ (اليابان وأستراليا ونيوزيلندا) سوى دولة واحدة فقط.
وكانت الحكومات مترددة أيضا في معاقبة الشركات التي تسهل التهرب من العقوبات بما يضاعف الانتهاكات.
وعلى سبيل المثال، لم تفرض المملكة المتحدة أيّ غرامات على انتهاكات العقوبات لأكثر من عامين بعد الغزو الروسي واسع النطاق في فبراير 2022. ولم تتجاوز الغرامة الأولى، التي فُرضت في سبتمبر 2024، مبلغ 15 ألف جنيه إسترليني (18500 دولار).
وكانت الدول الغربية الفردية لا تعاقب هذه الدول التي تعتبرها شريكة في مجالات أخرى. وارتفعت شحنات المكونات الحيوية إلى هذه البلدان، حتى مع انخفاض هذه الواردات في روسيا. وعندما لم تتحرك الديمقراطيات الراشدة ردا على ذلك، سمحت الصين للكيانات الموجودة في برها الرئيسي للصين وهونغ كونغ بالانضمام لهذه الدول.
ويقدم التاريخ حلولا لمعالجة مثل هذه الانتهاكات. فخلال الحرب العالمية الأولى، حاول الجانب الألماني أثناء الحصار استيراد مواد حيوية (كالصلب والمتفجرات والأدوات الآلية) عبر هولندا المحايدة، ففرضت قوى الحلفاء حصص استيراد عليها لمنع التحايل.
وسمح هذا للهولنديين خلال الحرب بجلب نفس كميات السلع الأساسية المستوردة خلال العام الأخير من السلام (1913). ووضع هذا الاختيار مسؤولية فرض العقوبات على هولندا المحايدة. وهكذا أصبح على الهولنديين اتخاذ قرار بشأن تخصيص الواردات المحدودة لصالح صناعات بلادهم أو السماح للصناعات الألمانية بالاستفادة منها.
وخلال الحرب الباردة، كان على غير المنتمين إلى كوكوم (مثل سويسرا) الالتزام بلوائح اللجنة للوصول إلى التقنيات المتقدمة ذات الاستخدام المزدوج.
واعترف الخبراء وصناع السياسات بأوجه القصور التي تشوب اتفاق فاسينار منذ ما يقرب من عشرين عاما، ودعوا إلى إصلاحه. وينبغي أن تجبر الأدلة الدامغة صناع السياسات على إنشاء منظمة متعددة الأطراف (أشبه بكوكوم أكثر من فاسينار) لمنع الدول التوسعية من استخدام التكنولوجيات التي طورتها الديمقراطيات الصناعية المتقدمة لمهاجمتها.
وتبقى أوكرانيا المثال الأكثر وضوحا، لكن هذه المشكلة تمتد إلى ما هو أبعد من حدودها. واختبرت كوريا الشمالية مؤخرا صاروخا باليستيا متطورا عابرا للقارات حقق ارتفاعا ومدة غير مسبوقين. وفي يونيو 2023، كاد صاروخ إيراني الصنع أطلقه الحوثيون في اليمن أن يضرب حاملة طائرات أميركية. وما يثير القلق هو اعتماد كل هذه التطورات على مكونات مستوردة من الديمقراطيات المتقدمة.
ويتطلب عكس هذا الاتجاه من الديمقراطيات إعادة بناء الأطر المؤسسية والالتزام بمحاسبة المخالفين، بغض النظر عن الانزعاج السياسي.
وإذا نجحت الدول الديمقراطية في هذا، فسيمكن أن يشهد العالم مرة أخرى شكلا من أشكال السلام الذي يفرضه الاعتماد التكنولوجي.