أجهزة الدولة سلاح أصحاب السلطة: من يحصّن الانتخابات في تونس

في سابقة منذ ثورة يناير 2011، تُنظّم تونس استحقاقات الانتخابات الرئاسية هذا العام، وسط شدّ وجذب وتخوفات كبيرة من أن تكون هذه المحطة مُفسدة للمناخ السياسي والديمقراطي، على اعتبار أن الانتخابات الرئاسية تشهد هذه المرة تقديم شخصيات وأسماء بارزة تُمسك بدواليب الدولة وتحديدا في هرم السلطة، ترشحاتها لخوض السباق نحو قصر قرطاج، حيث قدّم كل من رئيس الحكومة يوسف الشاهد ورئيس البرلمان عبدالفتاح مورو وكذلك عبدالكريم الزبيدي رسميا ترشّحاتهم لخلافة الباجي قائد السبسي في رئاسة الدولة. وكل هذا يشي بأن الحملات الانتخابية ستكون ساخنة ومراهنة على سلاح توظيف أجهزة الدولة رغم أن الدستور يقر بوجوب تحييد الإدارة وعدم الزج بها في صراعات الانتخابات.
تونس – أغلقت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات الجمعة، باب تقديم الترشّحات للانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها والتي ستُجرى دورتها الأولى يوم 15 سبتمبر القادم، لتتحدّد وتُحسم بذلك الملامح النهائية لخارطة المرشحين للانتخابات من حيث الجدية ومن حيث الأحجام والأوزان السياسية والشعبية.
صراع في هرم السلطة
تميّزت الأيام الأولى التي فتحت فيها هيئة الانتخابات يوم 2 أغسطس الماضي باب تقديم الترشحات للانتخابات الرئاسية بفلكلور انتخابي اتسم بنوع من التهريج وكذلك بعدم جدية الأسماء التي طرحت نفسها لخلافة الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، ما يؤكّد فعلا أن الديمقراطية التونسية تبقى فتية وناشئة وفي حالة دربة وأنها مرّت بفشل الطبقة السياسية طيلة تسع سنوات في الارتقاء بالفعل السياسي من مرحلة الاستسهال إلى مرحلة أخطر وهي الاستسهال أي الاستهانة والاستخفاف بتقلّد المسؤوليات داخل أجهزة الدولة.
مخاوف في تونس بعد ترشح الشاهد ومورو والزبيدي للانتخابات الرئاسية من توظيف أجهزة الدولة في المعارك الانتخابية
في الربع ساعة الأخير، وقبل نهاية فترة قبول الآجال، نزلت الأسماء والشخصيات السياسية البارزة من المعارضة ومن الحكم لتقدّم نفسها كخيار مطروح أمام التونسيين خلال الاستحقاق الانتخابي الرئاسي، لكن هذه الترشحات الجدية للانتخابات لم تمنع بدورها من خلق جدل جديد في المشهدين السياسي والإعلامي، خاصة بعدما أعلن كل من رئيس الحكومة يوسف الشاهد وكذلك المكلف بأعمال رئاسة البرلمان عبدالفتاح مورو (خلف الرئيس السابق للبرلمان محمد الناصر الذي تولى بدوره مهام رئاسة الجمهورية بعد وفاة الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي) وكذلك وزير الدفاع عبدالكريم الزبيدي عن ترشحهم للمنافسة في الانتخابات على الفوز بكرسي قرطاج.
لم يكن الجدل الجديد، هذه المرة متأتيا من ثبوت وجود خرق دستوري أو قانوني، بل إنه يتعلقّ بمسألة أخرى مُتّفق عليها بصفة عُرفية وتخص أخلقيات العمل السياسي، حيث كان شعار الطبقة السياسية المرفوع طيلة تسع سنوات هو وجوب تحييد الإدارة وتجنّب توظيف أجهزة الدولة في معارك الانتخابات، ما يعني وجوبا أنه كان على رئيس الحكومة يوسف الشاهد أو عبدالفتاح مورو رئيس البرلمان أو عبدالكريم الزبيدي وزير الدفاع، تقديم استقالاتهم لتجنّب الوقوع في التجاوزات أو ربمّا التشكيك في ما بعد حتى في نتائج الانتخابات.
لقد عرفت تونس منذ عام 2011 أي بعد إسقاط نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي، محطات انتخابية هامة تشريعية كانت أو رئاسية وتحديدا في عامي 2011 و2014 وكان الاتفاق بين مختلف حساسيات الطبقة السياسية أن تقتصر أدوار المسؤولين على إدارة دواليب الدولة وخاصة رئيس الحكومة والوزراء فقط على توفير المناخ الملائم لإجراء الانتخابات دون المشاركة فيها أو الترشّح لأي منصب، لكن هذه المرة يختلف الأمر كثيرا، ما جعل المشهد أكثر تعكرا حتى قبل انطلاق الحملات الانتخابية باتهامات متبادلة، لا تقتصر فقط على تململ المعارضة بل انخرطت فيها الأسماء الحاكمة المشاركة في الانتخابات والتي أخذت تكيل لبعضها التهم بشأن توظيف أجهزة الدولة.
وفي قلب هذه المعركة، تعلّل رئيس الحكومة يوسف الشاهد عند تقديم مبررات عدم استقالته من رئاسة الحكومة بأنه اختار المراهنة على قصر قرطاج، ولو فعل ذلك (الاستقالة) لتم تأجيل الانتخابات، قائلا “لن أستقيل من مهامي خلال الحملة الانتخابية”.
وأضاف “سأبقى على رأس الحكومة وأتحمّل مسؤوليتي في الدولة، لأن في استقالة رئيس الحكومة استقالة للحكومة، وفي هذا هروب من المسؤولية”، مشيرا إلى أنه لا وجود لسبب قانوني يدفعه إلى الاستقالة.
من الناحية المنطقية والعملية وعند الغوص في صلاحيات كل من رئيس الحكومة أو رئيس البرلمان أو وزير الدفاع، يتبيّن على الأقل نظريا أن عبدالكريم الزبيدي لن تكون أمامه أي فرصة لتوظيف أجهزة الدولة بما أن منصبه منحصر في تسيير دواليب المؤسسة العسكرية التي أثبتت في أحلك الفترات التي مرت بها تونس أنها زاهدة في السلطة وأن هدفها الوحيد هو حماية البلاد والحفاظ على استقرارها الأمني وتأمين المسار الديمقراطي.
وبنفس الطريقة تقريبا، فإنه بعدما مضت كل الأحزاب للتركيز على حملاتها الانتخابية التشريعية والرئاسية، فإن عبدالفتاح مورو مرشح حركة النهضة الإسلامية صاحبة الأغلبية في مجلس نواب الشعب للانتخابات الرئاسية، لن يكون بين يديه أي أسلحة برلمانية تذكر قد يوظفها في الانتخابات.
وفي كل هذا تبقى الحكومة بما تتمتع به من صلاحيات واسعة النفوذ، إثر ترشح رئيسها لانتخابات الرئاسة وعدد من وزرائها للانتخابات التشريعية محلّ اتهام مباشر بأنها ستُقحم مؤسسات الدولة وتزج بها في معاركها الانتخابية، خاصة أن لها نفوذا واسعا ليس فقط على المستوى المركزي بل على كل الإدارات والمؤسسات العمومية في مختلف جهات البلاد.
منذ الوهلة الأولى، التي فتح فيها باب الترشحات لانتخابات الرئاسة، لم تكن الاتهامات الموجهة لرئيس الحكومة بتوسّل أجهزة الدولة لإمالة الكفة لفائدته من باب التخمينات، بل جاءت على لسان وزير الدفاع عبدالكريم الزبيدي الذي كشف عن تعرّضه لضغط كبير وحملة تشويه شعواء من قبل أجهزة نافذة في الدولة.
وقال الزبيدي لدى تقديم ترشحه للانتخابات حرفيا “إني استنكر حملة التشويه الشرسة والممهنجة التي أتعرض لها من جهات متعددة الأطراف، هذه الجهات تستعمل وسائل وإمكانات الدولة لتشويهي”.
ولم تقف المسألة عند هذا الحد، حيث تعاملت جل المكونات السياسية المعارضة ليوسف الشاهد بتفكّه وتندر بعدما تمت الخميس الماضي، مداهمة منزل عبدالعزيز الدغسني صهر رئيس حركة النهضة راشد العنوشي المتهم بالتوّرط في قضية الجهاز السري للحزب الإسلامي.
وقد استهجن البعض من المتابعين رغم دفعهم لوجوب تفكيك ملف قضية الجهاز السري هذا التصرّف وصنّفوه في خانة توظيف أجهزة الدولة، مستغربين من عودة الشاهد في هذه الفترة بالذات إلى ملف الجهاز السري الذي دفع الباجي قائد السبسي قبل رحيله وكذلك أحزاب المعارضة إلى وجوب حلحلته لكن دون أن تتفاعل الحكومة مع ذلك.
الشاهد والنهضة
يرجع جل المتابعين اعتماد الحكومة على هذا الملف إلى ما يعتبره الشاهد طعنة النهضة التي ساندت حكومته طيلة عامين، لكنها في ما بعد اختارت ترشيح نائب رئيس الحركة عبدالفتاح مورو لخوض الانتخابات الرئاسية.
من ناحية أخرى، تسيل أيضا العديد من الإجراءات التي اتخذها رئيس الحكومة في هذه الفترة بالذات الكثير من الحبر، من ذلك إعلان الحكومة مثلا عن إغلاق وحدة إنتاج مادة ثلاثي الفوسفات الرفيع وهو مطلب شعبي منذ سنوات في محافظة صفاقس وسط شرق البلاد بتعلّة أن إفرازات مصنعها الملوثة تمثل كارثة بيئية بالغة الخطورة على صحة المواطنين، أو الإعلان أيضا عن عدة إجراءات تستهدف المرأة وخاصة المرأة العاملة الفلاحية من ذلك تأمين ظروف نقل آمنة للعمل رغم وعود الحكومة منذ عامين لهذه الفئة التي تعرّضت للكثير من حوادث المرور بسبب سوء ظروف نقلها إلى الضيعات الفلاحية.
لكن، رغم كل ما يقال حول إمكانية توظيف أجهزة الدولة، يحمل عديد المتابعين للشأن السياسي من الطرف المقابل آمالا عريضة تعوّل على فطنة التونسيين في تصديهم لكل أنواع الخروقات وفضحهم أي ممارسات غير قانونية توظف المؤسسات العمومية أو تزج بها في العمل السياسي، لتبقى في النهاية المهمة الأصعب موكلة لهيئة الانتخابات كونها ستتعامل لأول مرة مع قد يحصل من تجاوزات يقترفها مرشحون يتقلدون مناصب هامة في هرم السلطة.