آن للقاهرة المشاركة في حل أزمات السودان المستعصية

من مصلحة مصر أن يصل السودانيون إلى تهدئة سريعة، ومن مصلحتها أن تكون طرفا في هذه التهدئة لما للسودان من أهمية إستراتيجية بالنسبة إليها بالرغم من العقبات التي تواجهها، ومن بينها وضعها في قائمة داعمي قائد الجيش ما يصعّب عليها مهمة الوساطة.
لم تعد هناك مبررات لتقف مصر بعيدا عن المساهمة الفاعلة في حل أزمات السودان، ومهما كانت الرؤى الرافضة أو المتحفظة على دورها من قبل بعض الأطراف المحلية والإقليمية والدولية، عليها أن تطلّع بمسؤوليتها دفاعا عن أمنها القومي ومصالحها مع واحد من أهم جيرانها، فالأزمات التي يمر بها السودان تجاوزت حدود المناوشات التقليدية بين القوى السياسية وبات كيان الدولة مهددا، بما ينعكس سلبا على مصر.
قامت القاهرة بتحركات سياسية ودبلوماسية وإنسانية على مستويات مختلفة الأيام الماضية، وأطلقت تصريحات منضبطة ومسؤولة وأبدت انفتاحها على الجميع، غير أن كل ذلك لم تظهر له بصمات واضحة في مبادرة أو وساطة أو خطة تتبناها مصر وتعمل على تنفيذها وتتغلب على ممانعات عديدة وضعها البعض استنادا إلى صورة ذهنية قاتمة أوجدتها دوائر سودانية اعتقدت أن حضور القاهرة ليس في صالحها.
وأكدت تطورات السودان، قديما وحديثا، وجود صدّ لافت لأيّ دور تقوم به مصر أو تسعى إليه لتسوية أزمات هذه الدولة التي لها أهمية إستراتيجية كبيرة، ما جعل أيّ مقاربة طرحتها أو فكرت أن تقدم عليها مرفوضة مبكرا، بما ضاعف من صعوبة مشاركتها في حل الأزمات طوال الفترة الماضية.
والسودان لا يحتمل رفاهية الاستجابة للممانعات والاستسلام للرفض، فقد أوجدت مشاركات مصر في تهدئة الصراعات المشتعلة في قطاع غزة وليبيا دورا مهما لها، بعيدا عن حجمه مفصليا وحيويا أم محدودا بتوازنات إقليمية ودولية معينة، ففي الحالتين القاهرة وُجدت وظهر دورها بجلاء في المحكات الرئيسية التي مرت بها غزة وليبيا.
◙ الأضرار تتجاوز ملف الهجرة والنزوح المثقل بالجراح أصلا في مصر، إلى حد الاستعداد للتعامل مع دويلات أو كيانات صغيرة
ومصر تملك من الأوراق ما يمكنها من القيام بدور مماثل، وربما أوسع، في حالة السودان، كعمق حيوي لها، وأيّ نتائج كبيرة أو صغيرة تتولد عن الحرب الراهنة بين قوات الجيش والدعم السريع ستكون لها تداعيات، ما يفرض عدم الانتظار كثيرا.
وفي ظل دوران الصراع بين قائدي الجيش الفريق أول عبدالفتاح البرهان والدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) يمكن أن تمضي التطورات بصورة أشد تأثيرا، وبشكل تصعب ملاحقته أو تطويقه، مع إصرار كل طرف على تفضيل الحل العسكري، فلا أحد سوف يتضرر بعد السودانيين أكثر من المصريين.
وتتجاوز الأضرار ملف الهجرة واللجوء والنزوح المثقل بالجراح أصلا في مصر، إلى حد الاستعداد للتعامل مع دويلات أو كيانات صغيرة يمكن أن تظهر في السودان، فالصراع الذي تتدخل فيه أطراف إقليمية ودولية لوضع حد له لا يزال مفتوحا على احتمالات عدة، مع صعوبة تحقيق أحد الجانبين انتصارا حاسما فيه وتزايد فرص استمراره وما ينطوي عليه ذلك من إنهاك واستنزاف لهما، وكأن هناك من يريد الوصول إلى هذه النقطة كي يتمكن من فرض شروط عليهما.
لن يكون من مصلحة مصر انفراط عقد الجيش وتدهور حال المؤسسة العسكرية في السودان أو انتصاره وهو محاط بجملة تحديات كفيلة بكسر شوكته، ولن يكون في مصلحتها أيضا سحق قوات الدعم السريع وتحويلها إلى حركة متمردة تلجأ إلى حاضنة اجتماعية في دارفور تمنحها من الحياة ما يساعدها على الصمود والتصدي، وإعادة تكرار سيناريو الحرب في هذا الإقليم، والذي يعج بحركات مسلحة لها انتماءات وولاءات قبلية وإثنية وجهوية متباينة.
وتحفز هذه الاعتبارات الإدارة المصرية على التخلي عن جزء من تعاملها السابق مع السودان كبلد يصدّر الأزمات ويجب التعامل معه بطريقة أمنية فقط، وإضافة أدوات دبلوماسية فاعلة إليها، فالصراع الراهن يحتاج إلى حنكة سياسية، لأن طرفيه الظاهرين، البرهان وحميدتي، هما امتدادا لأطراف أخرى تقف خلف كليهما.
فهناك طيف داخلي من القوى السياسية وآخر خارجي من القوى الدولية، يؤيدان أحدهما على حساب الآخر، أو يؤيدانهما معا لأجل إحداث إنهاك مضاعف في جسم مريض، تنخر فيه أزمات متفاقمة جرى استثمارها للوصول إلى مشهد عبثي كفيل بالقضاء على تبقى من السودان، والذي لم يحدث من قبل في العاصمة الخرطوم.
وتحتاج المشاركة في أزمات السودان تغييرا في المنظومة التي استخدمتها مصر طويلا معه ولم تفلح في تحقيق أهدافها، وهي منظومة قامت على إعلاء المحدد الأمني على غيره، وهي واحدة من التحفظات التي أخذتها القوى السودانية على القاهرة، ودفعتها كثيرا إلى التردد في التجاوب معها كلما واتتها فرصة لطرح مبادرة تتوافر لها بيئة جيدة تساعدها على النجاح.
كما أن التواصل مع القوى السياسية والمجتمع المدني محدود أو في أحسن الأحوال مؤقت، فلم يعد التواصل على مستوى النخبة متواصلا كما كان في الماضي، للدرجة التي أفقدت الثقة بينهما في وقت كانت القوى السياسية في السودان في حاجة إلى الدخول في حوارات ونقاشات مع نظرائها في مصر، والتي غابت أو غيبت النخبة فيها، بما ألقى بظلال سلبية على سودان لا ترغب نخبته في الوصول إلى مصير النخبة المصرية.
وكانت هذه واحدة من الكوابح التي عطلت محاولات مصرية جادة للتسوية في وقت مبكر بالتوازي مع تصميم على أفرقة أزمات السودان، وزاد من صعوبتها ارتياح القاهرة للتعامل مع الطبقة العسكرية في الخرطوم، تحت شعار ثابت أن الجيوش أكثر قدرة في الحفاظ على وحدة الدول.
◙ لدى مصر خبرة بالسودان سياسيا ومعرفة بتعرجاته العسكرية والجهوية، ومضت عليها لحظات صعبة في دارفور والجنوب
وهذا صحيح إذا توافرت قاعدة شعبية وطنية، ليست لها ميول عقائدية وأيديولوجية تعيد أشباحا سابقة، وهو ما رآه سودانيون في جيشهم وأوصلهم في النهاية إلى دعم فرع عسكري على حساب المؤسسة المركزية، كرها في البرهان أكثر منه حبا لحميدتي.
ولدى مصر خبرة كبيرة بالسودان سياسيا ومعرفة دقيقة بدهاليزه وتعرجاته العسكرية والجهوية، ومضت عليها لحظات لا تقل صعوبة في حربي دارفور والجنوب، توقفت الأولى من دون توفير حلول جذرية لها ما يعني أن بركانها يمكن انفجاره في أيّ لحظة، وانفصل الجنوب عنوة، في عملية جراحية تمت إدارتها بحنكة من قبل الولايات المتحدة وقبل بها الرئيس السابق حفاظا على استمرار سلطته.
وعلى القاهرة إدراك أن البرهان يمكن أن يواجه في مصيره خيارا مشابها لخيار البشير، بمعنى كي يستمر في الخرطوم والشرق عليه التضحية بالغرب، وربما بجنوب كردفان والنيل الأزرق وبلاد النوبة، وهي معادلة قاسية على مصر التي كافحت لأجل الحفاظ على وحدة ما تبقى من السودان عقب انفصال جنوبه.
ويبدو الوصول إلى هذا السيناريو ليس مستعصيا، ففي ظل التطورات الحالية التي لا أحد يعرف بالضبط نهاياتها، يمكن أن يصبح الحديث عن تقسيم المقسم أمرا واقعا، وما لم تكن لدى مصر خطة (أ) لقطع الطريق على هذا الاحتمال ستكون مضطرة للتعامل مع الخطة (ب) التي يتحول فيها التقسيم من شبح بعيد المنال إلى قريب.
وتقول الأوضاع التي يمر بها السودان وغموض المصير الذي يمكن أن تنتهي إليه الوساطات الإقليمية والدولية إن كل شيء ربما يصبح ممكنا في بلد منكوب بالاقتتال، ولذلك آن لمصر المشاركة بتوسع في حل أزمات السودان، وعدم انتظار استدعاء من أحد، فثمة قوى عديدة في الخرطوم لن تتردد في دعم القاهرة لأنها بلا أطماع حقيقية.