آثار مدمرة لأزمة المياه في غزة

غزة - يواجه قطاع غزة، وهو قطاع ساحلي مكتظ بالسكان، أزمة مياه حادة ومتفاقمة يؤكد محللون أن آثارها طويلة الأمد ومدمرة. وعلى مدى الأشهر الخمسة الماضية، تعرضت غزة للدمار بسبب الحملة العسكرية الإسرائيلية المتواصلة.
وتقول ناتاشا ويستهايمر، وهي محللة في مجال حوكمة المياه، في تقرير نشره معهد الشرق الأوسط إن مع تجاوز عدد القتلى الآن 31.000 شخص والأزمة الإنسانية الكارثية التي يعاني منها القطاع، فإن أحد التحديات الأكثر إلحاحا التي تواجه سكان القطاع هو الوصول إلى المياه.
ويقوم 2.2 مليون فلسطيني يعيشون في غزة بتقنين ما بين 1 و3 لترات يوميا لجميع استخدامات المياه، وكثيرا ما يلجأون إلى مياه الشرب من البحر أو من مصادر أخرى غير آمنة.
وتتفاقم أزمة المياه الحادة الأخيرة هذه بسبب التحديات الأساسية التي يواجهها قطاع المياه في غزة. ويتطلب كشف طبقات هذه القضية المعقدة فهم العوائق الحاسمة التي تحول دون الوصول إلى المياه النظيفة والعواقب المدمرة لانعدام الأمن المائي الحاد لفترات طويلة.
تواجه غزة التحدي الأساسي المتمثل في قلة توافر المياه الطبيعية. وقد أدى تسرب المياه المالحة، نتيجة الإفراط في استخراجها، والتلوث من مياه الصرف الصحي، إلى جعل 97 في المئة من طبقة المياه الجوفية الساحلية، المصدر الطبيعي الوحيد للمياه، غير صالحة للاستهلاك البشري.
وتستكمل غزة إمدادات المياه الجوفية عن طريق شراء معظم المياه الصالحة للشرب من إسرائيل وتطوير محطات تحلية المياه. ومع ذلك، فإن القيود الإسرائيلية المفروضة على دخول المواد اللازمة لتطوير البنية التحتية للمياه أدت إلى تفاقم عدم توفر المياه الكافية في غزة.
ويفرض الجيش الإسرائيلي إجراءات بيروقراطية يمكن أن تؤخر أو توقف تماما استيراد الإمدادات الأساسية، مثل خطوط الأنابيب ومعدات البناء. ويشكل هذا تحديا كبيرا أمام إنشاء وصيانة البنية التحتية للمياه، بما في ذلك محطات تحلية المياه، مما يؤثر على قدرة غزة على تقديم الخدمات الأساسية.
واقع طويل الأمد
وحتى مرافق تحلية المياه التي تنتج كميات صغيرة من مياه الشرب الآمنة غالبا ما تكون غير قادرة على العمل بكامل طاقتها بسبب نقص الوقود والكهرباء وانقطاعها، وهو ما يفرضه الجيش الإسرائيلي أيضا. وهذه العوامل مجتمعة تعيق التقدم نحو تحقيق الأمن المائي المستقر والمستدام في غزة وتغذي دائرة الاعتماد على المياه التي توفرها إسرائيل، مما يعزز السيطرة الخارجية على مورد حيوي.
وقبل الحرب الدائرة اليوم، لم يكن سكان غزة يحصلون إلا على خمس كمية مياه الشرب الآمنة التي أوصت بها منظمة الصحة العالمية، بمتوسط 21 لترا فقط من المياه الصالحة للشرب يوميا مقارنة بالـ100 لتر الموصى بها. وهذا التفاوت الصارخ ترك غزة مع أقل من 10 في المئة من المياه التي يتمتع بها المواطنون الإسرائيليون، الذين يبلغ متوسطهم حوالي 280 لترا يوميا.
وكانت لأزمة المياه التي طال أمدها في غزة عواقب وخيمة على الأمن البشري. وتجبر محدودية توافر المياه الأسر على إعطاء الأولوية للاحتياجات الأساسية مثل الشرب والطهي، وغالبا ما يكون ذلك على حساب الصرف الصحي والاستحمام وغسيل الملابس. وهذا يمكن أن يؤثر بشكل مباشر على الصحة، مما يزيد من خطر الإصابة بالأمراض المنقولة بالمياه والالتهابات الجلدية. ويضطر سكان غزة إلى الاعتماد على بائعي المياه من القطاع الخاص وغير المنظمين، الأمر الذي أثار تاريخيا مخاوف بشأن التلوث والقدرة على تحمل التكاليف.
وينفق السكان موارد كبيرة على مصادر المياه البديلة أو يتعاملون مع التكاليف المتعلقة بالصحة، وغالبا ما يتركون فواتير المياه البلدية غير مدفوعة بسبب سوء جودتها، مما يزيد الضغط المالي على هذا القطاع. وعلاوة على ذلك، فإن نقص المياه النظيفة يعيق التنمية الاقتصادية. وتعاني الزراعة، وهي أساس الثقافة والاقتصاد في غزة، بسبب ندرة المياه. وهذا يؤدي إلى زيادة البطالة وزيادة الضغط على الاقتصاد الهش بالفعل، مما يخلق حلقة مفرغة من الفقر وانعدام الأمن المائي.
وعلاوة على ذلك، فإن تقلص المساحة المادية للتنمية الزراعية في غزة، بسبب الحملات العسكرية الإسرائيلية الدورية وغيرها من القيود المفروضة على تنمية الأراضي، لا يؤثر فقط على سبل العيش ويعيق التنمية الزراعية، ولكنه يؤدي أيضا إلى تسريع عملية التصحر، مما يزيد من تعرض غزة لتغير المناخ.
ويضيف تغير المناخ طبقة أخرى من التعقيد. وفي واقع حيث تكون سلطات المياه، على سبيل المثال، غير قادرة على تغطية حتى تكاليفها الأكثر أهمية أو تطوير البنية التحتية لتوفير الاحتياجات الأساسية للسكان، فمن شبه المستحيل جعلها قادرة على الصمود في وجه تغير المناخ.
ومع تهديد أنماط هطول الأمطار المتغيرة لتوافر المياه في المستقبل، فإن انعدام الأمن المائي المزمن يقوض القدرة على الاستثمار في الحلول المقاومة للمناخ ويخلق وضعا محفوفا بالمخاطر حيث يصبح السكان الذين يعانون بالفعل من احتياجات المياه الأساسية عرضة بشكل متزايد للصدمات المناخية.
ردا على هجوم حماس الوحشي على المجتمعات الإسرائيلية في السابع من أكتوبر، شنت إسرائيل هجوما عسكريا شاملا وأعلنت حصارا “شاملا” على قطاع غزة، بما في ذلك القطع الفوري لإمدادات المياه والكهرباء من إسرائيل إلى غزة. واليوم، هناك وصلة واحدة فقط من وصلات المياه الثلاثة من إسرائيل إلى غزة تعمل، وهي تعمل بسعة 47 في المئة فقط. وشهدت مرافق المياه، بما في ذلك أكثر من 60 بئرا بلديا ومنشآت تحلية المياه الثلاث في غزة، توقفا كاملا أو جزئيا، مع تشغيل 17 في المئة فقط من آبار المياه الجوفية.
وحاليا، يتم تشغيل اثنين من مرافق تحلية المياه، ومع ذلك، لا يمكنهما توليد المياه إلا بقدرة 25 في المئة فقط بسبب نقص الوقود. وأفادت التقارير بأن أكثر من نصف البنية التحتية للمياه والصرف الصحي في غزة قد تضررت بسبب الغارات الجوية، ولا توجد إمكانية الوصول إلى المياه النظيفة في شمال غزة.
وحتى عندما تعمل المرافق، وإن كانت أقل بكثير من طاقتها، فقد تم تدمير الشبكات ومحطات الضخ في جميع أنحاء القطاع. وبالتالي، يتم استخدام الصهاريج لتوصيل المياه إلى السكان، مما يعرض مقدمي الخدمات لخطر كبير. وقد قُتل موظفون في أكبر مرافق المياه في غزة، وهي مصلحة مياه بلدية الساحل، في غارات جوية أثناء تقديم هذه الخدمات.
ويمنع انقطاع الاتصالات المرافق من تقييم عمليات المنشأة أو إنتاجية الآبار. وعلاوة على ذلك، تعرضت جميع محطات معالجة مياه الصرف الصحي المركزية الثلاث في غزة، والتي تم الانتهاء من بنائها فقط في السنوات القليلة الماضية، للأضرار في الغارات الجوية.
أزمة كارثية
ولا يمكن رؤية مدى الضرر إلا من خلال صور الأقمار الاصطناعية، حيث لا يستطيع الموظفون الوصول إلى المواقع. ومن الصعب تقييم الآثار البيئية طويلة المدى لهذا الدمار بشكل كامل وسط أعمال العنف المستمرة، ومع ذلك، أشارت التحليلات المبكرة إلى أن أكبر الآثار البيئية والمناخية لهذه الحرب هي الانبعاثات الهائلة الناجمة عن الغارات الجوية الإسرائيلية والغزو البري لغزة.
ووسط عمليات القصف، أصبح السكان يعتمدون بشكل متزايد على إمدادات المياه من مصادر غير آمنة للبقاء على قيد الحياة، حيث يقدر متوسط استهلاك المياه حاليا بين 1.5 و3 لتر للشخص الواحد يوميا.
وأعلنت المنظمات الإنسانية أن 15 لترا من المياه هي الحد الأدنى اللازم في حالات الطوارئ، والتي تشمل مياه الشرب والطهي والنظافة، في حين أن 3 لترات هي الحد الأدنى للبقاء على قيد الحياة. وهذه الكميات منخفضة بشكل مدمر، مما يؤدي إلى ارتفاع معدل انتشار الجفاف والالتهابات الجلدية، في حين تتزايد المخاوف بشكل خاص بشأن الأمراض الأخرى التي تنقلها المياه مثل الكوليرا.
وحتى الثاني عشر من مارس، توفي 27 شخصا في غزة بسبب الجفاف وسوء التغذية. وكإجراء طارئ، تم تركيب محطة صغيرة لتحلية المياه على الجانب المصري من معبر رفح، لتوصيل إمدادات الطوارئ إلى السكان في رفح. ومع ذلك، فإن عدد الشاحنات التي تقوم بتوصيل المياه وغيرها من المساعدات الإنسانية الأساسية أقل بكثير من الطلب، وكثيرا ما تم منعها من دخول غزة من قبل السلطات الإسرائيلية والمتظاهرين الإسرائيليين.
تعتبر أزمة المياه في غزة اليوم كارثية، وتتفاقم شدتها بسبب التحديات طويلة الأمد التي تواجه الأمن المائي في القطاع. ومع محدودية الموارد الطبيعية وعدم كفاية قدرات تحلية المياه بسبب العوائق التي تعترض البناء والتنمية، لم يكن لدى غزة سوى قدرة ضئيلة للغاية على توفير المياه وسط الحرب.
◙ أزمة المياه في غزة اليوم كارثية وتتفاقم شدتها بسبب التحديات طويلة الأمد التي تواجه الأمن المائي في القطاع
وبالتالي، كان لقرار إسرائيل الأحادي الجانب بقطع إمدادات المياه تأثير مدمر، بسبب اعتماد غزة المفرط على مصدر الشرب الآمن هذا. وعلاوة على ذلك، فإن نفس العوائق التي تحول دون بناء الأمن المائي في غزة، مثل القيود الإسرائيلية على دخول المواد لأغراض البناء، تمنع أيضا دخول الإغاثة الإنسانية والمساعدات المائية. ولكي تتمكن غزة من بناء الأمن المائي، فإن هذه الحواجز، التي تضرب بجذورها في سياسات إسرائيل المنهجية والمتعمدة لتقييد الوصول إلى المياه، يجب أن تتغير بشكل جذري.
ويعد دخول إمدادات الوقود الطارئة إلى غزة ضروريا أيضا لزيادة عمليات تحلية المياه ومرافق الصرف الصحي في القطاع. وبعيدا عن الاحتياجات الفورية، فإن الأمن المائي على المدى الطويل يتطلب إصلاحا جوهريا للحواجز المفروضة على قطاع المياه في غزة. وهذا يتطلب رفع القيود المفروضة على دخول المواد حتى يتمكن قطاع المياه من تطوير وصيانة البنية التحتية الخاصة به.
ويمكن لبناء محطات تحلية المياه لتوليد إمدادات بديلة أن يقلل من اعتماد غزة على مصادر المياه الإسرائيلية. كما أن تعزيز قدرات تحلية المياه سيسمح لمقدمي خدمات المياه بتخفيف عمليات استخراج المياه الجوفية وإعادة تأهيل طبقة المياه الجوفية الساحلية، وهو أمر حيوي لتحقيق القدرة على الصمود على المدى الطويل. ويلعب الدعم السياسي والمالي الدولي دورا حاسما في هذا الأمر، حيث سيكون تمويل تطوير البنية التحتية ضروريا، خاصة عندما يتمكن قطاع غزة من الانتقال إلى فترة إعادة الإعمار.
وتوفر هذه الاستثمارات أيضا فرصة لدعم قطاع المياه في إعطاء الأولوية للنُهج القادرة على التكيف مع تغير المناخ في برامج البنية التحتية والإمدادات، وتنبغي تعبئة أحدث تطورات القطاع في مجال التكنولوجيا وأفضل الممارسات لدعم هذه البرامج. وفي حين أدى الصراع المستمر إلى تفاقم الوضع بشكل كبير، يواجه سكان غزة تحديات طويلة الأمد في كفاحهم من أجل ضروراتهم الأساسية. وبالتالي فإن معالجة كارثة المياه هذه تتطلب نهجا متعدد الجوانب، نهجا يوفر الإغاثة الإنسانية العاجلة ويعالج السبب الجذري لانعدام الأمن المائي الذي طال أمده في غزة.